لقد دعا الإسلام إلى التطلع والتكسب والعمل، وفي نفس الوقت عالج ما يعتري النفس البشرية مما يصيبها من الجشع المادي الذي قد يفسد عليها طمأنينتها ومكارم أخلاقها، حيث يقتلع المسلك العلاجي الإسلامي جذور ذلك بتصوير الحال تصويراً بليغاً، حتى لا يبقى منه شيء من إشراف النفس المتجاوزة للحد، أو المخالفة للخُلُق الإسلامي. فهذا حكيم بن حزام رضي الله عنه يذكر منهجية ذلك؛ والتي يرويها عنه سعيد بن المسيب وعروة بن الزبير، قال حكيم (سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأعطاني، ثم سألته فأعطاني، ثم قال لي: يا حكيم ! إن هذا المال خَضِرٌ حُلْوٌ، فمن أخذه بسخاوة نفس بورك له فيه، ومن أخذه بإشراف نفس لم يُبَارَك لَه فيه، وكان كالذي يأكل ولا يشبع، واليد العليا خير من اليد السفلى. قال حكيم: فقلت يا رسول الله ! والذي بعثك بالحق لا أَرْزَأُ أحداً بعدك شيئاً حتى أفارق الدنيا، فكان أبو بكر يدعوا حكيماً ليعطيه العطاء، فيأبى أن يقبل منه شيئاً، ثم إن عمر دعاه ليعطيه فأبى أن يقبل منه، فقال: يا معشر المسلمين ! إني أعرض عليه حقه الذي قسم الله له من هذا الفيء؛ فيأبى أن يأخذه، فلم يَرْزَأ حكيمٌ أحداً من الناس شيئاً بعد النبي صلى الله عليه وسلم حتى توفي.)
يبين هذا الموقف التربوي من النبي صلى الله عليه وسلم مع حكيم بن حزام رضي الله عنه فوائد عديدة جليلة، منها: أن حكيم بن حزام رضي الله عنه لم يغل ذكر سبب التوجيه النبوي ، مما يبين تربوياً أهمية نقل التجارب الشخصية للآخرين، بقصد أخذ الفائدة والعلم منها.
ثم يبين هذا الموقف كَرَمَ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم بتكرار عطائه لحكيم بن حزام رضي الله عنه ثم تلا ذلك التوجيه التربوي منه صلى الله عليه وسلم بعد أن أجزل له العطاء؛ فبلغ تأثيره أعماق نفسية حكيم؛ إذ لم يكن التوجيه قبل العطاء،مما يفيد في مثل هذا الموقف أن يكون التعليم والتوجيه بعد العطاء، أو قضاء الحاجة؛ حيث تكون النفس في تلك الحال متجهة ومتعلقة بما تطلب حتى تناله، وربما متأولة للنصيحة والتوجيه. وأما بعد العطاء والإشباع يزول ذلك التفسير أو التأويل المتوقع؛ الذي يحول بين المرء وبين إدراك النصيحة والتوجيه. مما يفيد تربوياً تقديم العطاء، أو قضاء حاجة الشخص، ثم التوجيه بعد ذلك، فإنها أبلغ في التأثير.
فكانت المنهجية التربوية العلاجية لاستشراف النفس؛ في أحسن صورة وأبلغ تأثير، حيث عالج ذلك عليه الصلاة والسلام بعدة ركائز:
أولاً: ببيان الصفة الملازمة للمال؛ واحتكامها منه كاحتكام حب الخُضْرَةِ والحلاوة في النفوس. فالخضرة والحلاوة تَسْتَلِذُّ بها ولها الطبائع البشرية، وقد لاَزَمَ ذلك المحبوب من الخضرة والحلاوة تلك الأموال، فتتجاذب لها النفوس وتتوق، وفي هذا تقرير لهذه الحالة النفسية التي يكشفها رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم ينفيها عن الطبيعة البشرية، لأن انعدامها في الطبائع الإنسانية يقتل العمل والتطلع، ولكن منهجية الإسلام التربوية تضبط ذلك بالمسلك التربوي الذي يحد من عملية التأثر ببريق المال.
وثانياً في هذه المنهجية العلاجية: يقرر رسول الله صلى الله عليه وسلم حالات التعامل البشرية مع هذا المال الفتان بلونه وحلاوته: فآخذ له بسخاوة نفس، أي بغير شَرَهٍ ولا إلحاح، وآخذ له بإشراف نفس، أي بشره وإلحاح، فمن أخذه بالحالة الأولى حفت ذلك المال البركة من الغني الكريم سبحانه وتعالى، ومن أخذه بالحالة والصورة الثانية انتفت منه البركة التي هي أساس صلاح المال.
وثالث هذه الخطوات العلاجية: تشبيه حال الشَّرِه المُلِح المُسْتَشْرِفَة نفسه له؛ والتي قد فقدت بركة المال؛ بذلك الذي يأكل ولا يشبع. وفي هذا التشبيه النبوي الكريم ما يجسد للمستمع والقارئ للحديث حقيقة هذا التعامل في صورة متكاملة المشهد، في جميع وجوهه بأسلوب غاية في الدقة والإيضاح. وهذا الوصف النبوي يبين سبب شراهة البعض تجاه المال، حتى قد يصل به الحال إلى أن لا يتردد في أخذه من غير حِلِّه، وبالتالي فإن علاجه في أبسط صور العلاج، أن يُعَوِّد نفسه على عدم استشراف المال بنهم وجشع. ثم تمام العلاج ببيان المفاضلة بين من يأخذ ومن يُعطي (واليد العليا خير من اليد السفلى) لترتسم في ذهن المتعلم ومن يستمع ويقرأ هذا التوجيه النبوي الكريم صورة العطاء وما يلازمه من الخيرية، وصورة السؤال وما يلازمه من الدونية.
ثم يأتي بعد ذلك أثر هذا المنهج العلاجي الكريم كسرعة البرق في ضوئه، والرعد في صوته، ليقتلع ما كان عند حكيم بن حزام t من ذلك السلوك، فيقول حالاً في مجلسه (والذي بعثك بالحق لا أَرْزَأُ أحداً بعدك شيئاً حتى أفارق الدنيا) فقد بدأ تأثره وتجاوبه رضي الله عنه مع هذا المنهج النبوي العلاجي: بقسم على أن لا يسأل أحداً شيئاً بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى مفارقة الدنيا. وكلمة (شيئاً) تعني العموم، ليس المال فقط؛ بل كُلَّ شيء، وليس فيه استثناء لزمن أو حالة؛ بل حتى مفارقة الدنيا.
ثم تأتي الممارسة والتطبيق العملي من حكيم رضي الله عنه في صورة من يأتيه المال دونما طلب منه أو استشراف نفس؛ فيرفضه رضي الله عنه، وكأني به رضي الله عنه قد تذكر قول النبي صلى الله عليه وسلم (واليد العليا خير من اليد السفلى) بل يقول أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه (يا معشر المسلمين ! إني أعرض عليه حقه الذي قسم الله له من هذا الفيء، فيأبى أن يأخذه) إنها صورة المتعلم والمتربي؛ الملتزم بما تعلمه من نبيه محمد صلى الله عليه وسلم إلى درجة التورّع عن ما يجوز له أخذه، وإنها كذلك صورة المنهجية التربوية العلاجية العظيمة التي تضمنها المنهج الإسلامي العظيم. (فمات حين مات وإنه لمن أكثر قريش مالاً)