وبعد خروج المصطفى صلى الله عليه وسلم وأبي بكر رضي الله عنه من الغار في طريقهما إلى الساحل؛ لِيَنْفُذَا من خلاله إلى المدينة، يواجهان مواقف عديدة، قد تجلت فيها معية الله تعالى لهما، وكرم خُلُقه صلى الله عليه وسلم وبعض المعجزات الباهرات، وكذا محبة الصديق له عليه الصلاة والسلام، وشهادة من يقابله ممن لا يعرفه بأنه نبي؛ لما يرون عليه من الصفات والخلال التي لا يمكن أن تكون إلا في نبي، فيروي منها البراء بن عازب، فيقول: (جاء أبو بكر الصديق إلى أبي في منـزله. فاشترى منه رحلاً، فقال لعازب: ابعث معي ابنك يحمله معي إلى منـزلي. وقال لي أبي: احمله فحملته. وخرج أبي معه يَنْتَقِدُ ثمَنَه….)
يبين هذا المقطع صورة لأسلوب التعامل التسويقي في البيع والشراء؛ والذي كان سائداً في مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك الوقت. من معاونة الإبن لأبيه في بيعه وشرائه، وكذلك خدمة المشتري؛ بحمل ما يشتريه لداره، والذهاب مع المشتري لقبض الثمن. مما يبين الخُلُق الرفيع الذي تتميز به أخلاق التجارة في رحاب الإسلام، والتواضع الذي كان سائداً في ذلك الوقت، مما يعطي نموذجاً تربوياً عاليا في هذا الباب.
ثم يقول البراء رضي الله عنه حاكياً طريق الهجرة النبوية (… فقال له أبي: يا أبا بكر ! حدثني كيف صنعتما ليلة سَرَيْتَ مع رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: نعم. أَسْرَيْنا ليلتنا كلها. حتى قام قائم الظهيرة، وخلا الطريق فلا يمر فيه أحد. حتى رُفِعَتْ لنا صخرة طويلة لها ظل. لم تأت عليه الشمس بعد، فنـزلنا عندها، فأتيت الصخرة فسويت بيدي مكانا، ينام فيه النبي صلى الله عليه وسلم في ظلها. ثم بسطت عليه فروة، ثم قلت: نم يا رسول الله ! وأنا أنفض لك ما حولك. فنام وخرجت أنفض ما حوله…) .
وفي هذا المشهد من الخبر: عناية واهتمام أبي بكر الصديق رضي الله عنه بخدمة رسول الله صلى الله عليه وسلم فكان يهيئ المكان المناسب لرسول الله صلى الله عليه وسلم لينام أو يستريح، ويعمل ذلك بنفسه رضي الله عنه ، ويستفاد من ذلك أهمية احترام ذوي الفضل من أهل العلم وخدمتهم، والعناية بهم؛ لأنهم ورثة الأنبياء.