ولكي تتم الخطة بنجاح يذهب رسول الله صلى الله عليه وسلم وصاحبه إلى غار ثور، فيمكث فيه ثلاث ليال، حتى تنقطع أنظار الناس وييأسوا من وجوده صلى الله عليه وسلم.
وهذا يدل على أهمية التخطيط وحُسن التفكير والتدبير؛ والأخذ بالأسباب، التي جعلها الله تعالى من مقتضيات دفع المكائد والشرور.
ويذكر أبو بكر الصديق رضي الله عنه موقعهم من الغار؛ فيقول: ( كنت مع النبي صلى الله عليه وسلم في الغار، فرفعت رأسي فإذا أنا بأقدام القوم، فقلت: يا نبي الله لو أن بعضهم طأطأ بصره رآنا. قال: اسكت يا أبا بكر، اثنان الله ثالثُهما ) قال تعالى ( إلا تنصروه فقد نصره الله إذ أخرجه الذين كفروا ثاني اثنين إذ هما في الغار إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا فأنـزل الله سكينته عليه وأيده بجنود لم تروها وجعل كلمة الذين كفروا السفلى وكلمة الله هي العليا والله عزيز حكيم) قالت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها مبينة مدة بقائهما في الغار، وكيفية تزويدهما بالطعام وأخبار قريش: (… ثم لحق رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر بِغار في جبل ثور فَكَمِنَا فيه ثلاث ليال، يبيت عند هما عبدالله بن أبي بكر؛ وهو غلام شاب ثَقِف لَقِن، فيدلج من عند هما بسحر، فيصبح مع قريش بمكة كبائت، فلا يسمع أمراً يكتادان به إلا وعاه؛ حتى يأتيهما بخبر ذلك حين يختلط الظلام، ويرعى عليهما عامر بن فهيرة مولى أبي بكر منحة من غنم؛ فيريحها عليهما حين تذهب ساعة من العِشَاء، فيبيتان في رِسلٍ، -وهو لبن منحتِهما ورَضيفهما- حتى ينعق بها عامر بن فهيرة بغلس، يفعل ذلك في كل ليلة من تلك الليالي الثلاث…)
يبين هذا المشهد من رواية عائشة رضي الله تعالى عنها، المزيد من الأهمية التخطيطية؛ والأخذ بالأسباب، وجمع المعلومات التي يسهل من خلالها اتخاذ القرار، وهو ما يُعنى به في عمليات التخطيط؛ بمختلف مستوياتها، وفي جميع الميادين والمجالات، فَيُتَخَذُ الشاب الحاذق سريع الفهم، عبدالله بن أبي بكر الصديق، فيبيت عندهم الليل، فيصبح مع قريش، وينقل لهما ما يسمعه من الأخبار التي يتحدثون بها عن الرسول صلى الله عليه وسلم ويعود إليهما حين يختلط الظلام، حيث لا يراه ولا يتوقع بخروجه أحد. مما يؤكد أهمية العناية بالأسباب، وحُسن التدبير والتفكير، مما يبين أن المنهج الإسلامي يراعي الأخذ بالأسباب، والعناية بها، مع الاعتماد على الله تعالى، وهو ما أكده صلى الله عليه وسلم لصاحبه عندما قال له (لا تحزن إن الله معنا) كما جاء في الآية الكريمة.
وللمزيد من الأخذ بالأسباب، يأتي عامر بن فهيرة بعد العشاء بالغنم يرعاها، ثم يعود بها بغلس، فيشربون من لبنها، ويمحوا بها خُطى عبدالله بن أبي بكر رضي الله عنهما، فلقد اُتُخِذَت جميع الوسائل التي يحتاجانها في الغار من الطعام ومعرفة الأخبار بدقة وعناية.
ثم تقول أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها في وصف هذه الهجرة النبوية (…واستأجر رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر رجلاً من بني الدِّيل، وهو من بني عبد بن عدي هادياً خِرِّيتا ـ والْخِرِّيْت: الماهر بالهداية ـ قد غمس حلفاً في آل العاص بن وائل السهمي، وهو على دين كفار قريش، فأمناه، فدفعا إليه راحِلتَيهما، ووعداه غار ثور بعد ثلاث ليال براحلتيهما صبح ثلاث، وانطلق معهما عامر بن فهيرة والدليل، فأخذ بهم طريق الساحل ) .
يبين هذا المقطع من الحديث أنه قبل ذهابهما إلى الغار استأجرا رجلاً ماهراً بالطريق إلى المدينة، وهو عبدالله بن أُرَيْقِط الليثي، ليكون دليلهما من جهة الساحل، الذي لا يتوقعه أحد من قريش، وبالرغم من أن الدليل ليس مسلماً إلا أنهما أمّناه فدفعا إليه راحلتيهما، وهذا يعني أنهما قد عرفا حال هذا الرجل من حيث أمانته وصدقه ووفائه وخبرته المعرفية بالطريق، وهذا ما ينبغي مراعاته عند توظيف العاملين في المواقع المهمة والحساسة، من اختيار الأكفأ الخبير الذي يؤدي العمل وينجزه على أحسن ما يكون. وفيه الاستفادة من الكافر إذا لم يوجد المسلم، وكان ممن يؤمن جانبه.
فلقد أخذت مراحل الخطة للهجرة مرحلتين:
المرحلة الأولى: بعد بيعة العقبة الثانية، عندما أرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم مصعب بن عمير رضي الله عنه إلى المدينة ليُعَلِّم الناس، ومعه ابن أم مكتوم رضي الله عنه وأخبر الرسول صلى الله عليه وسلم أصحابه بأنه رأى دار هجرتهم ذات نخل بين لابتين، فهاجر من هاجر من المسلمين، وبذلك تكونت النواة الأولى للمسلمين من مهاجرين وأنصار في مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وإنها لمرحلة مهمة جداً؛ تتهيأ فيها المدينة لأمر عظيم، هو قدوم رسول الله صلى الله عليه وسلم إليها، وانتقال الرسالة إلى رحابها.
المرحلة الثانية: وهي هجرة المصطفى صلى الله عليه وسلم فاتخذ فيها عليه الصلاة والسلام أسباب الرحيل؛ من إعداد وتجهيز وتموين وراحلة ودليل، مما يؤكد أن المنهج الإسلامي منهج علمي عملي، قائم على الأخذ بالأسباب والاجتهاد فيها غاية الاجتهاد، مع التوكل على الله حق التوكل، وكلا الأمرين ظاهرين في هجرته صلى الله عليه وسلم فلقد كان يقول لصاحبه وهو في الغار: (اثنان؛ الله ثالثهما) فهو غاية التوكل الذي يبعث الثقة والاطمئنان، وكذلك عندما قدم عليهم سراقة؛ على ما سيأتي بيانه إن شاء الله تعالى. وفي نفس الوقت أخذ عليه الصلاة والسلام بجانب الأسباب في دقة وعناية واهتمام، لتعطينا هذه الهجرة في جميع خطواتها أهمية الدقة في العمل والمنهج والتفكير، وحساب جميع العوامل والاحتمالات التي يمكن أن تطرأ على الإنسان في عمله وأدائه اليومي، فهاهو صلى الله عليه وسلم يخرج إلى بيت أبي بكر في نحر الظهيرة؛ عند اشتداد حرارة الشمس، حيث الناس يتظللون في بيوتهم من حرارة الشمس، وبالتالي لن يرصدوا حركته صلى الله عليه وسلم.
علماً أن الله تعالى قادر على أن يسري به إلى المدينة كما أُسري به من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى. ولكن رسالته علم ومنهج يقتدي به المسلمون في جميع شؤونهم، فيتعرض عليه الصلاة والسلام لما يتعرض له البشر من مصاعب، ويتخذ الأسباب ويجتهد في ذلك؛ مع التوكل على الله حق التوكل