لم يرق لبعض المشركين ترك ما ألفوه من الضلال والكفر، وهجر الرذائل، بالرغم مما سمعوه من القرآن الكريم، وصفاء الدعوة؛ وما حوته من مكارم الأخلاق، وصفاء التوحيد والإخلاص لله تبارك وتعالى، وترك كل معبود من حجر أو شجر أو صنم يُعبد من دون الله تعالى.
ولكن هناك دواعي أخرى جعلت بعض كبرائهم يقفون ضد دعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم والتي منها:
ـ اضمحلال مصالحهم الاجتماعية من السيادة التي يمارسونها في البيت العتيق.
ـ الحسد والكبرياء، كما قال أبو جهل: تنازعنا نحن وبنو عبد مناف الشرف، أطعموا فأطعمنا، وحملوا فحملنا، وأعطوا فأعطينا، حتى إذا تجاذبنا على الرُّكَب، وكنا كفرسي رهان، قالوا: منا نبي يأتيه الوحي من السماء، فمتى نُدْرِك مثل هذه، والله لا نؤمن به أبدا، ولا نصدقه.
ـ خضوع الأسواق والركبان الذين يحملون البضائع ويتاجرون في رحلة الشتاء والصيف لقراراتهم.
ـ حب الذات وزخرف الدنيا أدى إلى استشعارهم صعوبة التنازل عن السيادة للرسول صلى الله عليه وسلم.
فهذه الأسباب غالباً ما تحول بين المرء وسلوك مسلك الصالحين، خشية على السيادة الموهومة، والمصالح التي مآلها للفراق، أو نتيجة الحسد والكبرياء، وكلها مجتمعة أو متفرقة من دواعي قطع الطرق الموصلة لمسلك الصراط المستقيم؛ المفضي إلى جنات الخلود.
وكل أحد خائف ومراع لمصالحه الباطلة فإنه ينحو عن جادة الطريق في التعليم والإدارة والدعوة، وفي كل شؤون الحياة، لأنه لا يعرف إلا تقديم مصلحته الخاصة على المصلحة العامة، والمصلحة العاجلة على الآجلة.
فصاحب المصلحة الوظيفية ينافح عن مكانه حتى ولو بإقصاء النجباء، وصاحب المال يصارع ويناطح الآخرين، وقد يسعى لإسقاطهم رغبة في التفرد والإنفراد. وصاحب الجاه ينافح ويضاد أولي الألباب من أهل الكياسة والفطانة خشية على جاهه.
فالتربية الصحيحة هي التي تُجَسِّد الروح الإسلامية في أفراد الأمة وتجنبهم مزالق الهوى والفكر الرديء من خلال الوالدين والإخوة والمدرسة والمسجد والإعلام.
ولهذه الأسباب اتخذ المشركون أساليب عديدة لمقارعة رسول الله صلى الله عليه وسلم والتصدي له ولمن دخل في دينه، ومن تلك الأساليب:
1ـ إلصاق التهم والنعت السيئ:
من الأساليب التي استخدمها المشركون التثبيط والإحباط من شأن رسول الله صلى الله عليه وسلم من خلال: النعوت والصفات والتهم السيئة الباطلة، التي تدفع الآخرين للتشكيك وعدم التصديق، لما لمزوه من صفات جارحة لعدالة الإنسان، فقالوا عنه صلى الله عليه وسلم ساحر ومجنون، وكاهن، وكذاب، وقد رد الله تعالى عليهم، وأبطل زعمهم وبهتانهم عن نبيه صلى الله عليه وسلم قال تعالى (وقالوا يا ايها الذي نُزِّلَ عليه الذكر إنك لمجنون لو ما تأتينا بالملائكة إن كنت من الصادقين ما نُنَزِّلُ الملائكة إلا بالحق وما كانوا إذاً مُنْظَرِين إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون ولقد أرسلنا من قبلك في شِيَعِ الأولين وما يأتيهم من رسول إلا كانوا به يستهزئون كذلك نسلكه في قلوب المجرمين لايؤمنون به وقد خَلَت سنة الأولين ولو فتحنا عليهم باباً من السماء فظلوا في يَعْرُجُون لقالوا إنما سُكِّرَت أبصارنا بل نحن قوم مسحورون)..
وأجابهم الله بقوله (ما أنت بنعمة ربك بمجنون).
وقال تعالى (وقال الظالمون إن تتبعون إلا رجلاً مسحوراً).
وقال تعالى (وقال الذين كفروا إنْ هذا إلا إفك افتراه وأعانه عليه قوم آخرون فقد جاؤوا ظلما وزوراً). وقال تعالى عن رسوله صلى الله عليه وسلم ( فلا أقسم بالخُنَّس الجوار الكُنَّس والليل إذا عَسْعَس والصبح إذا تنفس إنه لقول رسول كريم ذي قوة عند ذي العرش مكين مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِين وما صاحبكم بمجنون ولقد رآه بالأفق المبين وما هو على الغيب بِضَنِين وما هو بقول شيطان رجيم). وقال تعالى (فلا أقسم بما تُبْصِرُون ومالا تُبْصِرُون إنه لقول رسول كريم وما هو بقول شاعر قليلاً ما تُؤْمِنُون ولا بقول كاهن قليلاً ما تذكرون تنزيلٌ من رب العالمين ولو تَقَوَّلَ علينا بعضَ الأَقَاويل لأخذنا منه باليمين ثم لقطعنا منه الوتين فما منكم من أحدٍ عنه حاجزين وإنه لتذكرة للمتقين).
لقد استخدم أهل الكفر والضلال مع رسول الله صلى الله عليه وسلم أرذل الصفات وأسوء النُّعُوت وأقبحها، ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه الطيبين لم يقابلوا ذلك بالوهن والتأفف والتخاذل، بل صبروا على ذلك الأذى المعنوي في شجاعة قد غذاها الإيمان والتصديق، فبين الله تعالى في القرآن الكريم بطلان تلك الاتهامات، لتكون قرآناً يُتلى إلى يوم الدين.
فهذا نبي الله يتعرض للأذى المعنوي، بما فيه من القوة والشدة ووخز العرض بأمضى السيوف، وهي الكلمة الجارحة، فكيف بمن هو دونه صلى الله عليه وسلم من أهل الصلاح والتقى؛ ألا يتعرضون إلى اللمز والتجريح والتشكيك في إخلاصهم ونواياهم، وقد يُوصفون بأنهم أولي أطماع.
فمن كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قدوته فلينهج نهجه وسيرته من الصبر على أهل الأذى والطغيان، من باب الإشفاق عليهم، فلعلهم يَفِيقُون من سكرة غيهم وطيشهم فيرشدون، لأن الهدف ليس هو الانتصار عليهم، بل الهدف هو إصلاحهم وإدخالهم في باب الخير والفلاح.
إن هذا الأسلوب لا يقتصر على أعداء الدعوة الإسلامية فقط، بل إنه أسلوب يستخدمه الحاقدون والحاسدون في جميع دوائر الخير ومجالاته، فصاحب الرأي السديد في إدارته، والمعلم الناجح في مدرسته ومعهده وجامعته، والصديق بين أصدقائه وجلسائه قد يجد من يرميه بالكلام الجارح والصفات السيئة، بُغْيَة تثبيطه وتنفير الناس عنه، ولكن بالصبر الجميل كما صبر رسول الله صلى الله عليه وسلم يظهر ويعلو على الحاقدين والحاسدين.
وإن المنهج التربوي الناجح هو الذي يُذْكي في أتباعه الصبر على الأذى كما صبر رسول الله صلى الله عليه وسلم وأتباعه من أصحابه الميامين ومن اقتفى أثرهم من بعدهم.
ومن أمثلة الأذى النفسي الذي تعرض له أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ما واجهه سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه إذ يقول: ( حَلَفَتْ أم سعد أن لا تكلمه أبداً حتى يكفر بدينه، ولا تأكل ولا تشرب. قالت: زعمتَ أن الله وصاك بوالديك وأنا أمك، وأنا آمرك بهذا، قال: مكثتْ ثلاثاً حتى غشي عليها من الجهد، فقام ابن لها، يقال له: عمارة، فسقاها، فجعلت تدعو على سعد ).
فهذا نوع من الإيذاء المعنوي الذي واجهه سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه من والدته، وإنه لأمر وابتلاء عظيم يواجهه من أمه بحرق فؤاده مما يراه عليها من الامتناع عن الطعام حتى غشي عليها، ولكنه صبر أمام ذلك الإيذاء.