بعد مضي ثلاث سنين من الدعوة سراً، أمر الله تبارك وتعالى نبيه بأن يَصْدَع بهذا الأمر، معلناً إياه على رؤس الأشهاد، فعن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: (لما نزلت (وأنذر عشيرتك الأقربين) خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى صَعِدَ إلى الصفا فهتف: يا صباحاه. فقالوا: من هذا ؟ فاجتمعوا إليه، فقال: أرأيتم إن أخبرتكم أن خيلاً تخرج من سفح هذا الجبل أكنتم مصدقي ؟ قالوا ما جربنا عليك كذبا. قال: فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد. قال أبو لهب: تباً لك، ما جمعتنا إلا لهذا ؟ ثم قام. فنـزلت (تبت يدا أبي لهب وتب)
فبهذه الآية العظيمة التي في مطلع الحديث تتأكد الأهمية العظيمة للتدرج والتهيئة في جوانب الحياة، وأن ثمرة الجهد البشري لا تتحقق في يوم وليلة على الغالب، بل تحتاج إلى الوقت الذي يُنْضِجُها؛ والجهد الذي يقوي مفاصلها، ويَشُدُ عضدها، وهكذا يكون الداعية، وطالب الأرباح، والمعلم، والمربي، والإداري، والسياسي.
وبهذه الآية العظيمة وهذا النداء النبوي يُعلن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الفئة المستضعفة والمتسترة بدين الله تعالى، قد أخذت منها التربية النبوية مأخذها القوي، الذي سيمكنها بإذن الله تعالى وتوفيقه بأن تصدع بهذا الأمر العظيم، الذي سيبلغ مشارق الأرض ومغاربها.
وللمسلم أن يلحظ في أسلوبه صلى الله عليه وسلم أنه بعد نداء القوم: يا صباحاه، بدأ بتقرير صفاته؛ وبأسلوب نبوي حكيم، إذ لم يُعدد مفردات أخلاقه، ولكن أثبت شهادتهم له على الملأ بمفردة خُلُقية واحدة، حيث قال صلى الله عليه وسلم (أرأيتم إن أخبرتكم أن خيلاً تخرج من سفح هذا الجبل أكنتم مصدقي ؟ قالوا ما جربنا عليك كذبا. ) وهي تلك الأخلاق العظيمة التي يُعْتَمَدُ عليها في قبول الأخبار، ثم بعد ذلك أخبرهم بالخبر العظيم، أنه رسول رب العالمين.
ولذلك فإن المعلم والمربي والداعية والقائد في إدارته ومصنعه ومستشفاه، والرجل في أهله، والمرأة في دارها، يلزمهم الاتصاف بما يجعل أقوالهم مقبولة عند من يحيطون بهم؛ ويستفيدون منهم، فلابد من قناعة المتعلم والمستفيد بصفات المعلم أو المفيد، أياً كانت دائرة فائدته ومجالها. وبعد ذلك يأتي دوره التوجيهي. وعلى المفيد أن يَعْلَمْ أنه قد يجد من لا يقبل قوله ويرد توجيهه بأقبح الردود، فتلك دعوة الله تبارك وتعالى ورسول كريم قد ردها أبو لهب رداً قبيحاً استحق بها سورة تذكر جزاءه ومآله. فليس المعلم أو القائد أو الداعية بأحسن من رسول الله صلى الله عليه وسلم ولن يأتي أحد منهم بما هو خير مما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم . فالحال إذاً هو الاجتهاد؛ وترك التوفيق لله تعالى (إنك لا تهدي مَن أَحْبَبْتَ ولكنَّ الله يهدي من يشاء وهو أعلم بالمهتدين). ولئن أبى ورفض أبو لهب الدخول في الإسلام؛ معلناً كبرياءه، فلقد دخل في دعوته صلى الله عليه وسلم خلق كثير؛ أفراد وجماعات، حيث امتد ركب الداخلين في دين الله تعالى حدود أم القرى، مكة المكرمة.