وأول ما نزل عليه صلى الله عليه وسلم قوله تعالى (إقرأ باسم ربك الذي خلق) أي لا تقرأ بقوتك ولا بمعرفتك ولكن بحول ربك ورعايته . وهكذا يكون جهد الإنسان التربوي والدعوي والاجتماعي والاقتصادي والسياسي مرتبط في نجاحه بالأخذ بالأسباب الذاتية والأسباب الشرعية، فلا تركن إلى بلاغتك وفصاحتك وقدرتك ومعرفتك في كل أمر من الأمور، ولكن اقرأ وتعلم وربِّ وادعُ وتاجر بالارتكان إلى قوة الله تعالى وحوله، فهذان عاملان أساسيان لنجاح الأعمال والأقوال.
إن هذه الآية الكريمة تعلم الإنسان البدء في كل أمرٍ من الأمور بالمعرفة والتَّعَلُّم؛ وربط ذلك بحوله وقوته وقدرته سبحانه وتعالى.
كما تعلمنا هذه الآية أن مفتاح هذا العلم هو القراءة؛ وما يلزم لذلك من معرفة الحرف والكلمة والكتابة، وما يتطلبه ذلك من الأدب مع المعلِّم حتى يعلمك ما تحتاج إليه، ويُغدِق عليك من معارفه، كما علَّمتنا خديجة بنت خويلد رضي الله عنها وهي تتكلم بلطف وأدبٍ مع ورقة بن نوفل، لتهيئه على أن يعلمها أمر زوجها صلى الله عليه وسلم فتقول له (يا ابن عمِّ اسمع من ابن أخيك) فقالت له:يا ابن عم، وهذه حقيقة، ثم قالت له: اسمع من ابن أخيك، وهو يجتمع مع النبي صلى الله عليه وسلم في جدِّه قصي، فأرادت بذلك الأدب أن يتأهب لسماع كلام النبي صلى الله عليه وسلم وذلك أبلغ في التعليم.
وإن شدة نزول الوحي عليه صلى الله عليه وسلم تعلمنا شدة العلم وحاجته إلى الصبر، وكذلك الدعوة إلى الله تعالى؛ فإنها تحتاج من الداعية أن يصبر على الأخذ بأدواتها التي من أبرزها تعلُّم العلم.
وبعد انقطاع الوحي مدة لم تدم طويلاً تتابع بعد ذلك نزول الوحي على رسول الله صلى الله عليه وسلم مدة بعثته.
ثم نزل قوله تعالى (يا أيها المدَّثر) عن جابر بن عبدالله الأنصاري، قال: وهو يحدث عن فترة الوحي، فقال في حديثه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم (بينما أنا أمشي إذ سمعت صوتاً من السماء، فرفعت بصري فإذا الملك الذي جاءني بحراء جالس على كرسي بين السماء والأرض، فَرُعِبْتُ منه، فرجعت فقلت: زملوني، فأنزل الله تعالى (يا أيها المدثر قم فأنذر _ إلى قوله _والرجز فاهجر) فحمي الوحي، وتتابع).
وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحرك لسانه بالقرآن مسارعة إلى حفظه؛ فأمره الله تعالى بأن ينصت حتى يُقضى إليه وحيه، ووعد بأنه آمن من تفلته، فعن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى (لا تحرك به لسانك لتعجل به) قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعالج من التنـزيل شدةً، وكان مما يحرك شفتيه، فقال ابن عباس: فأنا أُحَرِّكُهُمَا لكم كما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يُحَرِّكُهُما. وقال سعيد: أنا أُحركهما كما رأيت ابن عباس يُحَرِّكُهُما _ فحرك شفتيه _ فأنزل الله تعالى (لا تحرك به لسانك لتعجل به، إن علينا جمعه وقرآنه) قال: جَمْعَهُ لك في صدرك وتقرَأه (فإذا قرأناه فاتبع قرآنه) قال: فاستمع له وأنصت (ثم إن علينا بيانه) ثم إن علينا أن تقرأه. فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد ذلك، إذا أتاه جبريل استمع، فإذا انطلق جبريل قرأه النبي صلى الله عليه وسلم كما قرأه) .
فقد كان صلى الله عليه وسلم تواقاً لكلام ربه تبارك وتعالى؛ فيحرك لسانه رغبة في حفظه، وخشية أن يتفلت منه كلام رب العالمين، فيعلمه سبحانه وتعالى ما ينبغي عليه إزاء ذلك من الاستماع، ووعده بأنه آمِنْ مِنْ تفلته بالنسيان أو بغيره، الأمر الذي يجب أن يكون عليه المتعلم للعلم؛ خاصة لكتاب الله تبارك وتعالى وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم بأن يأخذ ذلك بقوة ومحبة ورغبة في إتقانه، وهي عوامل أساسية في حفظ العلم وإتقانه. ومكانها قلبي لا جهد فيه، غير أنها تحفز عملية التعلم، ثم بعد ذلك الاستماع والفهم لإدراك المعلوم من العلم،كما أنه لا يمكن للمرء في الغالب أن يفهم ويحفظ في لحظة إعطاء الدرس، أو العلم من المعلم، بل عليه أن يفهم ويُدْرِك ما يُقال له حال الدرس، ثم بعد تمامه يحفظه.
وعن عبدالله بن عباس رضي الله عنهما قال: ( كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أجود الناس، وكان أجودُ ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل، وكان يلقاه في كل ليلة من رمضان، فيدارسه القرآن، فلرسول الله صلى الله عليه وسلم أجود بالخير من الريح الْمُرْسَلة ) ذكر ابن حجر رحمه الله تعالى أنه قيل عن الحكمة من مدارسة جبريل عليه السلام لرسول الله صلى الله عليه وسلم القرآن الكريم : أن مدارسة القرآن تجدد له العهد بمزيد غنى النفس، والغنى سبب الجود، والجود في الشرع إعطاء ما ينبغي لمن ينبغي وفي هذا إشارة إلى أثر مدارسة القرآن الكريم على الغنى النفسي الذي ينعكس على جوارح الإنسان وتصرفاته ونظرته للدنيا وما فيها من مال ومكاسب، وأن في مدارسة القرآن الكريم ما يدفع الشح عن الإنسان، ويربي فيه العطاء والكرم والجود، وكما قال ابن حجر: مجموع ما ذكر من الوقت والمنـزُول به والنازل والمذاكرة حصل المزيد في الجود.
ومن فوائد الحديث: الحث على الجود في كل وقت، والزيادة عليها في رمضان، وعند الاجتماع بأهل الصلاح، وفيه زيارة الصلحاء وأهل الخير، وتكرار ذلك إذا كان الْمَزُورُ لا يكرهه، واستحباب الإكثار من قراءة القرآن في رمضان.
وفيه من الفوائد أن المدارسة لا تكون من فرد واحد فقط، وإنما تكون بين اثنين فأكثر، وأن تكون للقرآن في كل ليلة من ليالي رمضان. وفيه أهمية الحرص والمتابعة لمن وفقه الله لحفظ القرآن الكريم خاصة. فهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي تكفل له ربه بحفظه وجَمَعَهُ له في صدره يدارسه جبريل القرآن الكريم، فمن باب أولى أن يقوم بذلك أفراد الأمة؛ ولا سيما أهل العلم والصلاح، وخاصة الحفاظ حفظنا الله تعالى وإياهم.