فالنقد التربوي يُبْعِد المتعلمَ والمتلقي عن أن يكون مجردَ وعاءٍ يتلقى من الآخرين دون النظر والتمحيص فيما يُعرَض عليه ، وهو ما يسمى بـ ” التربية التقليدية ” ، وقد انتقد الله سبحانه وتعالى أولئك الذين عَطَّلوا عقولهم ، وأَلغَوا شخصياتهم ، واستنكروا لذواتهم ، فقال تعالى: (وكذلك ما أرسلنا من قبلك في قرية من نذير إلا قال مترفوها إنا وجدنا أبائنا على أمة وإنا على أثارهم مقتدون قال أولو جئتكم بأهدى مما وجدتم عليه أباءكم قالوا إنا بما أرسلتم به كافرون فانتقمنا منهم فانظر كيف كان عاقبة المكذبين )( الزخرف : 23 ـ ٢٥ ) ، وهذا من أعظم الأدلة الدالة على بطلانِ التقليدِ غير الواعي ، الذي يستنكر به صاحبُه اتباعَ الحق ، ويرفضُه حتى قَبْلَ سماعِه ، وأنه يجب على الإنسان العاقل أن يسعى بكل ما أوتي من عقلٍ وحكمةٍ في أن يتجرد للحق وقبولِه ، وعدم التبعية أو الانسياق وراءَ أحدٍ من الناس أو مذهبٍ من المذاهب كائناً من كان ، وقد رُوي عن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه أنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( لا تكونوا إِمَّعةً ، تقولون : إنْ أحسنَ الناسُ أحسنا ، وإن ظلموا ظلمنا ، ولكن وَطِّنوا أنفسكم ، إن أحسن الناس أن تحسنوا ، وإن أساؤوا فلا تظلموا )) ، فالإسلام لا يرضى لعقل المسلم أن يخضع لأي سلطة تمنعه من الفهم والاستقلال في الرؤية ، حتى لو كانت سلطة العلماء أنفسهم ، كما قال تعالى منتقداً أهل الكتاب: (أتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله)
( التوبة : ٣١ ) ، قال الشوكاني رحمه الله : ” وفي هذه الآية ما يزجر مَن كان له قلبٌ أو ألقى السمع وهو شهيد عن التقليد في دين الله ، وتأثير ما يقوله الأسلاف على ما في الكتاب العزيز والسنة المطهرة ” ، وهذا الأمر يساعد المتربي على اتخاذِ القرارِ الحكيم في الحياة اليومية ، والعلوم والمعارف والاتجاهات ، والبعد عن الغلو والتطرف ، أو الانسلاخ والتجرد من ضوابط الشريعة.
ومن هنا ذَكَر أهلُ العلم رحمهم الله من آداب المتعلم : ألا يغلوَ في تعظيم شيخه غلواً يبعث على قبول قوله ، وتقليده دون معرفة دليله ، ” بل لابد من النقد بِمَحَكِّ النظر ، وقبولِ ما رَجَحَتْ صحتُه بميزان الحق ” .
يروى أن رجلاً من أهل الشام جاء يسأل عبدالله بن عمر رضي الله عنهما عن التمتع بالعمرة إلى الحج ؟ فقال له : هي الحلال ، قال الرجل : إن أباك قد نهى عنها ؟ قال له : أرأيت إن كان أَبي قد نهى عنها ، وقد صنعها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أتتبع أَمْرَ أبي أَمْ أَمْرَ رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قال الرجل : بل أَمْرَ رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال ابن عمر رضي الله عنهما : صنعها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فهذا عبدالله بن عمر رضي الله عنهما جعل الميزان الذي توزن به الأعمال السنة المطهرة ، وعدم معارضتها بقول أحدٍ أو فعله ، لأنه قد يخفى على الإنسان بعض النصوص ، وربما لم تبلغه ، أوغير ذلك من العوارض التي تعرض للإنسان ، وهذا ضابطٌ مهمٌ في العملية النقدية ، يعطي للعقل مجالاً أرحب عند النظر فيما ورد عن المتقدمين مما يظهر منه نوع مخالفةٍ لبعض النصوص .
حتى عند التعامل مع كتب التراث فإن الباحث يستأنس بما فيها من أفكارٍ نافعة ، وطرائق وأساليب صالحة ، وفي نفس الوقت عليه أن يَزِنَها بميزانِ الشرع ، ويحللها تحليلاً ناقداً ثاقباً ، ليستفيد منها بما ينفعه في حياته المعاصرة ، دون أن يكون أسيراً للاجتهادات التربوية السابقة إن كانت قاصرةً ، ولذا كان على المربِّين أن يأخذوا بعين الاعتبار في تربيتهم لأفراد هذه الأمة غرس خُلُق الجرأة والشجاعة في نفوسهم ، حتى إذا إذا رأوا بعض المخالفات والأخطاء التي تحتاج إلى إصلاحٍ وتوجيه ، قاموا بواجب النصحِ ومسئوليةِ النقدِ خيرَ قيام ، وانطلقوا في مضمارِ الدعوة إلى الله ، وفي تبليغِ رسالة الإسلام ، وفي تقويم الاعوجاج والانحراف على خير الوجوه وأحسنها .