من الأمور المهمة التي لا غنى للناس عنها في حياتهم الاجتماعية التشاور بينهم فيما يمس حياتهم الخاصة والعامة، فالإنسان – مهما كان مركزه الاجتماعي – بحاجة إلى المشاورة، فالحاكم الذي يدير شؤون الدولة بحاجة إليها، وكذلك مدير المدرسة، وربّ الأسرة ونحوهم من الأفراد والجماعات.
والشورى مما جبل الله عليه الإنسان في فطرته السليمة، أي فطره على محبة الصلاح وتطلب النجاح في المساعي؛ ولذلك قرن الله تعالى خلق أصل البشر بالتشاور في شأنه إذ قال للملائكة{إني جاعل في الأرض خليفة}، إذ إن الله غني عن معونة المخلوقات في الرأي، ولكنه عرض على الملائكة مراده؛ ليكون التشاور سنة في البشر وضرورة، وأنه مقترن بتكوينه، فإن مقارنة الشيء للشيء في أصل التكوين يوجب إلفه وتعارفه.
ولما كانت الشورى معنى من المعاني لا ذات لها جعل الله إلفها للبشر بطريقة المقارنة في وقت التكوين.
ولم تزل الشورى في أطوار التاريخ رائجة بين البشر فقد استشار فرعون في شأن موسى عليه السلام فيما حكى الله عنه بقوله: {فماذا تأمرون}. واستشارت بلقيس في شأن سليمان عليه السلام فيما حكى الله عنها بقوله: {قالت يا أيها الملؤا أفتوني في أمري ما كنت قاطعة أمرا حتى تشهدون}، وإنما يلهي الناسَ عنها حبُّ الاستبداد وكراهية سماع ما يخالف الهوى، وذلك من انحراف الطبائع وليس من أصل الفطرة، ولذلك يهرع المستبد إلى الشورى عند المضائق.
وللمشاورة فوائد عدّة منها: أن المشاوِر إذا لم ينجح أمره علم أن امتناع النجاح محض قدر فلم يلم نفسه. ومنها أنه قد يعزم على أمر فيتبين له الصواب في قول غيره، فيعلم عجز نفسه عن الإحاطة بفنون المصالح. قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه (الاستشارة عين الهداية وقد خاطر من استغنى برأيه). والتدبير قبل العمل يؤمنك من الندم. وقال بعض الحكماء: ما استنبط الصواب بمثل المشاورة؛ ولا حصنت النعم بمثل المواساة’ ولا اكتسبت البغضاء بمثل الكبر.
ومن الأدلة الدالة على أهمية المشاورة ما رواه المصنف عن عمرو بن دينار قال: قرأ ابن عباس:(وشاورهم في بعض الأمر) فقوله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم (وشاورهم في الأمر) تُغني عن كلّ شيء، فإنه إذا أمرَ اللّه سبحانه وتعالى في كتابه نصّاً جليّاً نبيّه صلى الله عليه وسلم بالمشاورة مع أنه أكمل الخلق فما الظن بغيره؟وعن الحسن رضي الله عنه قال: (والله! ما استشار قومٌ قطّ إلاّ هُدُوا لأفضل ما بحضرَتهم، ثم تلا: (وأمرهم شورى بينهم).
ويتأكّدُ الأمرُ بالمشاورة في حقّ ولاة الأمور العامة كالسلطان والقاضي ونحوهما والآثار الصحيحة في مشاورة عمر بن الخطاب رضي اللّه عنه أصحابَه ورجوعِه إلى أقوالهم كثيرة مشهورة.
قال ابن خوير منداد:(واجب على الولاة مشاورة العلماء فيما لا يعلمون، وفيما أشكل عليهم من أمور الدنيا، ومشاورة وجوه الجيش فيما يتعلق بالحرب، ووجوه الناس فيما يتعلق بالمصالح، ووجوه الكتاب والعمال والوزراء فيما يتعلق بمصالح البلاد وعمارتها).
ومن آداب المشاورة في السنة النبوية ما يلي:
1 ــ التحري والدقة في اختيار المستشار:
على طالب المشورة أن يبذل ما بوسعه لاختيار المستشار المناسب الذي يثق بدينه وخبرته وحذقه في المجال الذي يريد أن يشاوره فيه، قال النووي:(واعلم أنه يُستحبّ لمن همّ بأمر أن يُشاور فيه مَن يَثقُ بدينه، وخبرته، وحذقه، ونصيحته، ووَرَعه، وشفقته).
ويُستحبّ أن يُشاور جماعة بالصفة المذكورة، ويستكثر منهم، ويعرّفهم مقصودَه من ذلك الأمر، ويُبيِّن لهم ما فيه من مصلحة ومفسدة إن علم شيئاً من ذلك.
ويجب التحري والدقة في اختيار المستشار؛ لأنّه مؤتمن (أي أمين على ما استشير فيه)، فمن أفضى إلى أخيه بسره، وأمَّنَه على نفسه، فقد جعله بمحلها، فيجب عليه أن لا يشير عليه إلا بما يراه صوابا، فإنه كالأمانة للرجل الذي لا يأمن على إيداع ماله إلا ثقة، والسر قد يكون في إذاعته تلف النفس أولى بأن لا يجعل إلا عند موثوق به.
عن أبي هريرة قال: قال النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم لأبي الهيثم:(هل لك خادِمٌ؟). قال: لا. قال: (فإذا أتانا سَبْيٌ، فَأْتِنا). فأُتِيَ النَّبيُّ برأسين ليس معهما ثالث، فأتاه أبو الهيثم. قال النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم (اخْتَر مِنْهما). قال: يا رسول الله! اخْتَرْ لي. فقال النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم (إنَّ المستشارَ مُؤتَمَن، خُذ هذا؛ فإنِّي رأيتُه يُصلِّي، واستَوْص به خيراً). فقالتِ امرأتُه: ما أنتَ ببالغ ما قال فيه النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم لا أن تُعْتِقَه. قال: فهُو عتيق. فقال النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم إنّ لله لم يبعث نَبِيّاً ولا خليفة، إلا وله بطانتان: بطانةٌ تأمره بالمعروف وتَنْهاه عن المُنْكر، وبطانةٌ لا تَألُوه خَبَالاً، ومَنْ يوقَ بطانة السُّوء فقَدْ وُقِيَ).
وقوله صلى الله عليه وسلم (إنّ المستشار مؤتمن) معناه: أن المستشار أمين فيما يسأل من الأمور، فلا ينبغي أن يخون المستشير بكتمان مصلحته وذكر بعض العلماء أنه يحتاج الناصح والمشير إلى علوم كثيرة؛ فإنه يحتاج أولا إلى علم الشريعة، وهو العلم العام المتضمن لأحوال الناس، وعلم الزمان، وعلم المكان، وعلم الترجيح، إذا تقابلت هذه الأمور فيكون ما يصلح الزمان يفسد الحال أو المكان وهكذا فينظر في الترجيح فيفعل بحسب الأرجح عنده، مثاله: أن يضيق الزمن عن فعل أمرين اقتضاهما الحال فيشير بأهمهما، وإذا عرف من حال إنسان بالمخالفة، وأنه إذا أرشده لشيء فعل ضده، يشير عليه بما لا ينبغي ليفعل ما ينبغي، وهذا يسمى علم السياسة، فإنه يسوس بذلك النفوس الجموحة الشاردة عن طريق مصالحها، فلذلك قالوا يحتاج المشير والناصح إلى علم وعقل وفكر صحيح ورؤية حسنة واعتدال مزاج وتؤدة وتأن، فإن لم تجمع هذه الخصال فخطأه أسرع من إصابته فلا يشير ولا ينصح، قالوا : وما في مكارم الأخلاق أدق ولا أخفى ولا أعظم من النصيحة.
2 ــ قبول المشورة:
ومن آداب المشاورة؛ إذا بذل المستشير الوسع في اختيار المستشار المناسب عليه أن يتقبل منه المشورة؛ لأن فائدة المشاورة القَبول من المستشار إذا كان بالصفة المذكورة، ولم تظهر المفسدة فيما أشار به، وعلى المستشار بذل الوسع في النصيحة وإعمال الفكر في ذلك وإذا لم يؤدّ المستشار الأمانة الملقاة على عاتقه من إعمال الفكر وإسداء النصح للمستشير، فقد خانه، وارتكب إثما، فعن أبي هريرة قال: قال النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم (مَنْ تقوّل عليَّ ما لم أقل، فليتبوأ مقعَدَه مِنَ النَّار. ومَن استشارَه أخوه المسلمُ، فأشارَ عليه بغير رُشد فقد خانه. ومَن أُفتي فُتيا بغير ثَبْت، فإثمه على مَنْ أفتاه).
3 ــ تقديم المشورة من غير طلب:
إذا رأى المسلم أن أخاه بحاجة إلى منَ يشيره برأي سديد في أمر فيه مصلحته، فعليه أن يبادر بتقديم المشورة وإن لم تبدر من أخيه الاستشارة؛ لما رواه المصنِّف، عن وهب بن كَيسان أن عبد الله بن عمر رأى راعياً وغَنَماً في مكانٍ قبيح، ورأى مكاناً أمثل منه فقال له: ويحك! يا راعي! حَوِّلْها، فإنِّي سَمِعْتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يقول: (كُلُّ رَاعٍ مسؤولٌ عن رعيَّتِه).
هذه طائفة من آداب المشاورة في السنة النبوية، فعلى الآباء والتربويين، تنمية روح التشاور والمناصحة في نفوس الأولاد والمتربِّين، وأن يربّوهم على كره نزعة الاستبداد والقهر والاستئثار بالرأي.