لم يكن البحث العلمي في مفهوم علماء المسلمين قديماً ترفاً علمياً، أو صناعة لا منهجية لها، بل كان ذلك في نظرهم مسؤولية علمية؛ بما يترتب عليه من الجزاء الأخروي، ثواباً أو عقاباً. مما أدى إلى رقي هذا المنحى الأصيل في نتاجهم العلمي، حتى أصبح ذلك النتاج إبداعاً متألقاً في جميع العلوم والمعارف.
ولا أدل على ذلك من ابتكاراتهم البحثية ومضامينها الإبداعية، مما يستدعي الوقوف عليها بعين الاستجلاء لروح الإبداع فيها، حتى يدرك جيلنا الذي ينظر بعض أفراده إلى منطلقات البحث العلمي من خلال أضواء الحاضر، وبمعزل عن نور الماضي المشرق ، الذي كان جذوة إبداع الأمم الحاضــرة.
فقد أسقط اللاحقون الجزء الأساسي في تكامل المعادلة الإبداعية، مما أظهرها من زاوية أحادية، لأن الناس لا يرون مبتكر الدواء ولكن يرون أو يقرؤون اسم صانع الدواء، ولا يرون مبتكرين الأجهزة الطبية ولكن يرون مستخدميها من الأطباء، فينبهرون بنتيجة الطبيب قبل أن ينبهروا بإبداعات المبتكرين.
وكذلك في سلسلة الإبداع العلمي يرون الحاضر المتولد عن المبتكر الغائب، فجاءت الصورة ناقصة المعالم، غير أن الإضاءة القوية غَطًَت تلك القاعدة الأساسية وسلسلتها البحثية السابقة.
وفي هذه الصورة المبتورة أول عوائق الإبداع ، بينما إيضاح معالمها وتجسيم جميع زواياها أول عوامل التربية الإبداعية، فالتلاميذ وطلاب العلم الذين يرون ثمار العلم المتدفق من الخارج بغزارة دون رؤية بحبوحة جذور العلم التي غرسها علماء المسلمين يبتر عنهم جذورهم العلمية ليربطهم بجذور أخرى وسائطية، يصعب أن يتعامل معها . فيشعر بغربة تلك الجذور الوسائطية عن ساقه المعرفي، فتنكفئ لديه جذور الإبداع بقدر ذلك الغائب.
وهذا لا يعني إنكار ونكران رواد المعرفة الحديثة، بل هي انطلاقة نستفيد منها إلى أقصى حد ممكن يرضاه لنا ديننا الحنيف. ولكن يجب تجسيم جميع زوايا منهجية البحث العلمي من خلال ربط الطالب بالجذور الإبداعية لأمته، مما يولد لديه قدراً كبيراً من الحماس المعرفي الذي يشعل جذوة الموهبة لديه، فيتفتق عنها مزيد إبداع في البحث العلمي الذي هو أساس التفوق وعنوان التقدم ومُنْجِب التوالد المعرفي .
فتصور مقدار انعكاس الصورة المعرفية التالية على إبداع الطالب المسلم ، وهذه الصورة هي :
لقد برع المسلمون في العلوم التجريبية، وأسسوا قواعدها ونواتها، ففي مجال الصيدلة: هم أول من اخترع الكحول، والمستحلبات، والخلاصات العطرية، واستخدم الرازي لأول مرة الزئبق في تركيب المراهم، وهم أول من غلف حبات الأدوية المرة بغلاف من السكر، ليتمكن المريض من استساغة الدواء، وهم أول من غلف الأدوية المعمولة على شكل حبوب، كما برعوا وابتكروا تحضير وضع وتركيب الضمادات والمساحيق واللزوق، وقد وقفوا على صنع مراهم تجف مع الوقت، كشماعات أو غطاء للجروح الحديثة، ومن أشهر من برع في علم الأدوية عبدالرحمن بن محمد بن عبد الكريم بن واقد، المتوفى سنة 467هـ – 1074م.
وفي علم التشريح تم اكتشاف الدورة الدموية الصغرى (الدورة الدموية الرئوية) وكذلك الدورة الشريانية من قبل ابن النفيس، واكتشفوا عدد الأغشية القلبية، ووظيفتها، واتجاه فتحاتها لمرور الدم، وبرعوا في تشريح العيون وجراحتها، واكتشفوا أن العضلات المحركة للمقل ست عضلات، وبينوا أن العين آلة للبصر وليست باصرة .
وفي علم الرياضيات هم أول من أسس (اللوغارتمات) فلقد ولد ونشأ وترعرع علم اللوغارتمات في البلاد الإسلامية، الذي يرجع في تكوينه لجهود سلسلة من الابتكارات على يد عدد من علماء الرياضيات، مثل: سنان بن الفتح الحراني، وابن يونس الصدفي المصري، وأبو الحسن على النسوي، وابن حمزة المغربي.
فتأمل أثر هذا المسلك التاريخي للإنجاز البحثي الإبداعي على من ابتدأ تعليمه بهذه المعارف العظيمة.
من هذا المنطلق يحسن بالمناهج التعليمية أن تربط الطالب بتاريخ العلوم في المرحلة الاعدادية والثانوية والجامعية خاصة، وذلك بالتدرج مع الطالب قدر استيعابه لكل مرحلة من مراحل تعليمه. فيدرس طالب الطب شيئا من منجزات أسلافه، وطالب الصيدلة قدرا من تاريخ الإبداع الصيدلي عند المسلمين. وهكذا في بقية التخصصات.
وللموضوع بقية في الجزء (2) إن شاء الله تعالى