أ كان النبي صلى الله عليه وسلم قدوة لكل مسلم فهو إذا أراد أن يأمر أصحابة بأمر يبدأ بتطبيقه على نفسه، عنْ جَابِرٍ قَال (خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِلَى مَكَّةَ عَامَ الْفَتْحِ، فِي رَمَضَانَ، فَصَامَ حَتَّى بَلَغَ كُرَاعَ الْغَمِيمِ فَصَامَ النَّاسُ، فَبَلَغَهُ:أَنَّ النَّاسَ قَدْ شَقَّ عَلَيْهِمُ الصِّيَامُ، فَدَعَا بِقَدَحٍ مِنَ الْمَاءِ بَعْدَ الْعَصْرِ فَشَرِبَ وَالنَّاسُ يَنْظُرُونَ، فَأَفْطَرَ بَعْضُ النَّاسِ، وَصَامَ بَعْضٌ، فَبَلَغَهُ أَنَّ نَاسًا صَامُوا فَقَالَ:”أُولَئِكَ الْعُصَاةُ) إن معلم البشرية يرى أن الاقتداء الفعلي أكثر تأثيراً في النفوس والعقول، والنصح والوعظ وإن كان لابد منهما إلا أنه لابد من تجسيد تطبيقي لهما، فمن سار على نهجه فقد اهتدى، ومن خالفه فقد عصى، والحديث يبين أنه عندما علم عن حال الناس من التعب وهم على سفر أراد صلى الله عليه وسلم أن يؤكد للناس أن الدين يسر، فأخذ بمبدأ (يسّروا ولا تعسّروا)، وكان من خُلقه إذا خُيّر بين أمرين اختار أيسرهما، فبدأ بنفسه وشرب الماء، فاقتدى به بعض أصحابه، أما الآخرين الذين أرادوا إتمام الصيام مخالفين قدوته فقد وصفهم صلى الله عليه وسلم بأنهم عصاة . لأن الاقتداء بالنبي أمر واجب على كل مسلم، قال تعالى(وما آتاكم الرسول فخذوه، وما نهاكم عنه فانتهوا، واتقوا الله إن الله شديد العقاب) (الحشرآية 7) .
كان الصحابة رضي الله تعالى عنهم يقتدون بكل أفعال الرسول صلى الله عليه وسلم حتى وإن لم يعرفوا العلة، عَنْ سَالِمٍ أَنَّ أَبَاهُ حَدَّثَهُ قَالَ: (قَبَّلَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ الْحَجَرَ، ثُمَّ قَالَ: أَمَ وَاللَّهِ! لَقَدْ عَلِمْتُ أَنَّكَ حَجَرٌ، وَلَوْلَا أَنِّي رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّه صلى الله عليه وسلم يُقَبِّلُكَ مَا قَبَّلْتُكَ) يبين الحديث حرص الصحابة على الاقتداء حتى بدقائق الأمور، فكل أفعاله صلى الله عليه وسلم كانت قدوة للأمة الإسلامية.وقد بين الحديث أن عمر أعلن طاعته واتباعه الرسول صلى الله عليه وسلم في تقبيل الحجر، وأنه فعل ذلك اقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم ، وفي هذا أن إعلان بعض الأعمال يكون أفضل من إخفائها إذا كان فيها قدوة؛ لأن من الأعمال ما يقتدى بها ويستمر أجرها لمن سنها. ومن يحاول إظهار العمل للقدوة، عليه أن يكون عالماً عارفاً بما يفعل ويظهره للاقتداء به، وأن يراقب قلبه فلا يدع للرياء فيه مجالاً. وهذه صفة المقربين من الرسول صلى الله عليه وسلم وقد شهد لهم أنهم قدوة ويقتدى بهم. قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم :” إِنِّي لَا أَدْرِي مَا قَدْرُ بَقَائِي فِيكُمْ فَاقْتَدُوا بِاللَّذَيْنِ مِنْ بَعْدِي وَأَشَارَ إِلَى أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ) يشير الحديث إلى إن الإسلام هو دين القدوة الحسنة، وإن أكثر الناس قدوة هو أعلمهم وأصلحهم، وكان في زمن الرسول صلى الله عليه وسلم أبو بكر وعمر، ممن طلب صلى الله عليه وسلم الاقتداء بهم، وإن كان في الحديث تخصيص لهما، إلا أنه يفيد العموم، فكل من كانت صفاته موافقة لمنهج المصطفى صلى الله عليه وسلم فهو قدوة للآخرين .
ومنهجه صلى الله عليه وسلم توافق الفعل مع القول لأنه أعمق وأقوى في التأثير على النفس، وما أعظم موقف عمر رضي الله عنه حين كان يجمع أهل بيته ليقول لهم: إني سأدعو الناس إلى كذا وكذا، وأنهاهم عن كذا وكذا، وإني أقسم بالله العظيم لا أجد واحداً منكم أنه فعل ما نهيت الناس عنه، أو ترك ما أمرت الناس به إلا نكلت به نكالاً شديداً، ثم يخرج رضي الله تعالى عنه ويدعو الناس إلى الخير، فلم يتأخر أحد عن السمع والطاعة، لإعطائهم القدوة بفعله، قبل إعطائهم إياها بقوله.
فالصحابة رضي الله تعالى عنهم كانوا أبر”هذه الأمة قلوباً، وأعمقهاً علماً، وأقلها تكلفاً، وأقومها هدياً، وأحسنها حالاً، اختارهم الله لصحبة نبيه صلى الله عليه وسلم وإقامة دينه، وعلى الأمة الإسلامية أن تعرف فضلهم، وتتبع آثارهم، فإنهم كانوا على الهدى المستقيم[1]”.قال تعالى (أولئك الذين هدى الله، فبهدهم اقتده) (الأنعام آية 90)
وقد ورد كثير من الأحاديث التي تشير إلى أن الصحابة كانوا قدوة لبعضهم، فهم
يؤيدون ما ورد عنه صلى الله عليه وسلم ، وينكرون ما خالف السنة حتى ولو كان من العبادات، وسار على نهجهم التابعون. فعَنْ حَفْصِ بْنِ عَاصِمِ بْنِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رضي الله تعالى عنهم، قَالَ: (صَحِبْتُ ابْنَ عُمَرَ فِي طَرِيقٍ قَالَ: فَصَلَّى بِنَا رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ أَقْبَلَ فَرَأَى نَاسًا قِيَامًا فَقَالَ:مَا يَصْنَعُ هَؤُلَاءِ؟ قُلْتُ: يُسَبِّحُونَ قَالَ:لَوْ كُنْتُ مُسَبِّحًا أَتْمَمْتُ صَلَاتِي، يَا ابْنَ أَخِي!إِنِّي صَحِبْتُ رَسُولَ اللَّه صلى الله عليه وسلم فِي السَّفَرِ فَلَمْ يَزِدْ عَلَى رَكْعَتَيْنِ حَتَّى قَبَضَهُ اللَّهُُ عزَّ وجل ، وَصَحِبْتُ أَبَا بَكْرٍ فَلَمْ يَزِدْ عَلَى رَكْعَتَيْنِ حَتَّى قَبَضَهُ اللَّهُ عزَّ وجل ، وَصَحِبْتُ عُمَرَ فَلَمْ يَزِدْ عَلَى رَكْعَتَيْنِ حَتَّى قَبَضَهُ اللَّهُ تَعَالَى، وَصَحِبْتُ عُثْمَانَ فَلَمْ يَزِدْ عَلَى رَكْعَتَيْنِ حَتَّى قَبَضَهُ اللَّهُ تَعَالَى. وَقَدْ قَالَ اللَّهُ عزَّ وجل :(لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة) الحديث يشير إلى أن ابن عمر أنكر فعل الناس كيف يقصرون الصلاة ويكملون النافلة، فذكر: “لو اخترت التنفل ؛ لكان إتمام فريضتي أربعاً أحب إلي، ولكني لا أرى واحداً منهما، بل السنة القصر وترك التنفل، ومراده النافلة الراتبة مع الفرائض كسنة الظهر والعصر وغيرها من المكتوبات). ويفيد الحديث بأن تقديم الأولويات أفضل من تقديم المكملات. وقياساً عليه فإنه ينبغي على من بيده زمام الأمور تقديم الأولويات في الأعمال، في جميع الأحوال، وخاصة من بحوزته أعمال خاصة بالآخرين، ولكن الواقع مغاير لما ينبغي، فقد قُدمت المصالح الشخصية وأُعطيت الأولويات الخاصة اهتماماً أكثر ووضعت في مقدمة الأعمال دون مبالاة بمصالح الآخرين. وهذه المعاناة المعاصرة تفشت في المجتمعات الإسلامية، وما ذلك إلا لفقد القدوة، والبعد عن السيرة النبوية، لأن قدوته صلى الله عليه وسلم سراج ينير القلوب والعقول لمن تمسك بها .فهو قدوة حية على مر العصور لمن اتبعها وتمسك بها .
4- الخداش /جاد الله بن حسن، المهذب المستفاد لتربية الأولاد، ط1، 1421هـ، المكتبة الإسلامية :عمان . ص271