وبعد هذه الصورة المؤلمة في حياة أبي سلمة وأم سلمة رضي الله تعالى عنهما، والتي هي من مقدمات الهجرة النبوية إلى المدينة؛ وما لقيه المسلمون من كفار قريش؛ يعزم أيضاً أبو بكر الصديق رضي الله عنه الرحيل إلى المدينة، ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يبشره بأنه يأمل من ربه أن يأذن له بالهجرة إلى المدينة، فيصحبه في هجرته، فعن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قالت:(… وتجهز أبو بكر قِبَل المدينة، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم على رِسْلِك، فإني أرجوا أن يُؤْذَن لي. فقال أبو بكر: وهل ترجوا ذلك بأبي أنت ؟ قال: نعم. فحبس أبو بكر نفسه على رسول الله صلى الله عليه وسلم ليصحبه، وعَلَّفَ راحلتين كانتا عنده ورق السَّمُر وهو الخبط أربعة أشهر…)
يفيد هذا العزم من أبي بكر الصديق رضي الله عنه قوة العزيمة، وعمق الحب لهذا الدين، الذي أصبح أحب إلى معتنقيه من الوطن والعشيرة والأهل. كما يفيد أن هجرة الرسول صلى الله عليه وسلم إلى المدينة بتوجيه من الله تعالى. وفيه كذلك من الفوائد: الأخذ بالأسباب، والاستعداد للأمر بوقت كاف، حيث (عَلَّفَ راحلتين كانتا عنده ورق السَّمُر وهو الخبط أربعة أشهر)
(…قال ابن شهاب قال عروة قالت عائشة: فبينما نحن يوماً جلوسٌ في بيت أبي بكر في نحر الظهيرة، قال قائل لأبي بكر: هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم متقنِّعاً. في ساعة لم يكن يأتينا فيها، فقال أبو بكر فداء له أبي وأمي والله ما جاء به في هذه الساعة إلا أمر. قالت: فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستأذن، فأُذِن له، فدخل فقال النبي صلى الله عليه وسلم لأبي بكر: أخرج من عندك، فقال أبو بكر: إنما هم أهلُك بأبي أنت يا رسول الله، قال : فإني قد أُذِن لي في الخروج. فقال أبو بكر: الصحبة بأبي أنت يا رسول الله.قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : نعم…)
ومن فوائد هذا المقطع في الترتيب للهجرة: اختيار الصاحب الصادق، فلقد اختار عليه الصلاة والسلام الصاحب الصادق الذي لا يتوانى بقليل أو كثير في خدمة رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا يدخر لنفسه شيئاً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أنه حمل في هجرته جميع ماله، فعن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما، قالت: ( لما توجه رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة إلى المدينة ومعه أبو بكر، حمل معه جميع ماله؛ خمسة ألف أو ستة ألف درهم ) .
وكذلك من فوائد هذا المشهد النبوي مع أبي بكر الصديق رضي الله عنه أخذ العدة للأمر الذي يُقدم عليه الإنسان، حيث اتخذ الرسول صلى الله عليه وسلم وصاحبه راحلتين، قد علفها الصديق ورق السمر، مدة أربعة أشهر، وهذا يعني أنها أقدر ما تكون على هذه الرحلة الطويلة بإذن الله تعالى.
ثم تأتي أهمية السرية في الأمر، فيقول صلى الله عليه وسلم لأبي بكر: (أخرج من عندك ) ويستفاد من هذا أنه لا غضاضة أن يطلب خروج من يُخاف أو يُخشى منه، ولكن أبا بكر يبين أن الموجودين هم أهل لرسول الله صلى الله عليه وسلم يخافون عليه كما يخافون على أبي بكر الصديق رضي الله عنه. وصدق الصديق عندما قال للنبي صلى الله عليه وسلم: إنما هم أهلك، فها هي أسماء تقطع من نطاقها لتربط به على فم الجراب، فَسُمِّيت: ذات النطاقين.
وفي هذا بيان لحال ومنهج الصَّدِيقِ مع صَدِيقِه، وكذا المرء مع رسالة نبيه، فيتمثل بما تمثل به أبو بكر الصديق رضي الله عنه الْمُحِب لرسوله، إذ يقول للنبي بعد أن أخبره أنه قد أُذن له في الهجرة، الصحبة بأبي أنت يا رسول الله ، ويعنى ذلك أن يتحمل المتاعب والمشاق من أجل نصرة ما جاء به نبيه محمد صلى الله عليه وسلم.
ثم تقول أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها في وصف ما دار بين النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر الصديق رضي الله عنه (… قال أبو بكر: فَخُذ بأبي أنت يا رسول الله إحدى راحلتي هاتين. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : بالثمن. قالت عائشة: فجهزناهما أَحَثَّ الجهاز وصنعنا لهما سُفْرَة في جِرَاب، فقطعت أسماء بنت أبي بكر قطعة من نطاقها فربطت به على فم الجراب، فبذلك سميت ذات النطاق…)
ويفيد هذا لمقطع المحبة المفعمة بالصدق والفداء من أبي بكر لرسول الله صلى الله عليه وسلم ليعط المثل الصادق في كيفية المحبة والفداء للرسول صلى الله عليه وسلم إذ يقول: خذ بأبي أنت يا رسول الله إحدى راحلتي، فَيُجِيبه صلى الله عليه وسلم : بالثمن . مما يفيد أن لا تقضي الصداقة على الحقوق، وأن لا تكون مبنية على الاستغلال، وقد كان ذلك بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين صاحبه، فهي لازمة في حق أبي بكر الصديق رضي الله عنه لرسول الله صلى الله عليه وسلم مما يجعلها بين غيرهما أولى. وإنها الأريحية مع الصديق، فما أحوج الناس إلى هذه المعاني الخُلُقية والسجايا الكريمة التي بينها رسول الله صلى الله عليه وسلم قولاً وعملاً؛ وفي أحلك الظروف وأصعبها.
ثم تأتي الصورة الأخرى من أسماء بنت أبي بكر الصديق ـ رضي الله تعالى عنهما ـ فتبادر إلى فعل الخير، حيث قطعت من نطاقها بما تربط به فم الجراب. مما يفيد أهمية المبادرة لفعل المعروف، بأقصى ما يستطيع المسلم.