3ـ المطالبة بالمعجزات:
لقد عمد كفار قريش إلى أسلوب آخر من المفاوضات، وهو المطالبة بالمعجزات، فقد قالت قريش للنبي صلى الله عليه وسلم : أدع ربك أن يجعل لنا الصفا ذهباً، ونؤمن بك، قال: أتفعلون ؟ قالوا: نعم. فدعا، فأتاه جبريل، فقال: إن الله يقرأ عليك السلام، ويقول: إن شئت أَصْبَحَ الصفا ذهباً، فمن كفر بعد ذلك عذبته عذاباً لا أعذبه أحداً من العالمين، وإن شئت فتحت لهم أبواب التوبة والرحمة، قال: بل باب التوبة والرحمة ).
إنه سؤال عظيم، ورحمة من رب عظيم، وترجيح واختيار من رسول رحيم عظيم، فلقد اختار صلى الله عليه وسلم أبواب التوبة والرحمة التي لو أغلقت لهلك كثير من الناس، لعدم عصمتهم، وحاجتهم وافتقارهم لرحمة الله تعالى. وهكذا يكون المعلم والمربي، والوالد والمسؤول، يختار لمن هم تحت مسؤوليته ما يجلب لهم الخير والصلاح والفلاح، وأن يصبر عليهم، ولا يكن غاشاً لهم، أو يجلب لهم العاجل الفاني مما يرضون به، ويترك الخير الباقي مما يجهلون به، رغبة في استمالة عواطفهم لأمور وقتية، فإنها معادلة يتحراها ذووا الألباب من المؤمنين الصادقين في أداء مسؤولياتهم المناطة بهم: تربوية كانت أو صحية أو اقتصادية أو علمية أو غير ذلك، فإن ذلك منهج نبوي كريم، فعليك صلاة الله وسلامه يا رسول الرحمة والهدى.
وكم من تاجر يُظهر الرديء ويُغري به الضعفاء لقلة يدهم، ويخرج الحسن بعد أن قَصُرَت أيديهم عن إطالته، فالله خير معين ونصير.
وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: (إن أهل مكة سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يريهم آية، فأراهم القمر شقتين، حتى رأوا حراء بينهما) . وقد بين الله تعالى ذلك في كتابه العظيم فقال تعالى (اقتربت الساعة وانشق القمر وإن يَرَوا آيةً يُعْرِضَوا ويقولوا سحرٌ مُسْتَمِرٌ).
وهكذا الجحود بعد أن رأوا المعجزة في انشقاق القمر، فقالوا: سحر مستمر، فكيف لو اختار رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يكون الصفا ذهباً وكذبوا بذلك ؟ ولكنه صلى الله عليه وسلم رسول الهدى والرحمة، يصبر ولا يستعجل، ويختار لأمته الأصلح والأفضل.
4ـ مسلك الجدال:
لقد أخذ مشركوا قريش مسلك الجدال بغية الإفساد والصد، والبحث عن ما يقوي ويعضد صدودهم، قال تعالى (ولما ضُرِبَ ابنُ مريمَ مَثَلاً إذا قومُكَ منه يَصِدُّون وقالوا أآلهتنا خيرٌ أم هو ما ضربوه لك إلا جَلَدَاً بل هم قومٌ خَصِمُون).
إن الجدال الباطل مسلك الكفار والجهال والمعاندين، وكما يحدث في أمور التوحيد الذي هو إفراد الله بالعبادة، فإن الجدال يحدث في غيره؛ من قضايا الدين والدنيا، وإذا كان هذا هو مسلك شياطين الغواية الإنسانية، فإنه ليجدر بالمسلم أن يُدْرِك خطورة الجدال مع إخوانه بغية الانتصار عليهم بالرأي في محيط طلاب العلم، وبين الأصدقاء، وفي دائرة الاجتماعات الرسمية وغير الرسمية، وإن المسلك الصحيح هو الحوار الهادف من أجل الحق، وإحقاقه، فَلَكم ضاعت صداقات ومصالح بسبب الجدال الذي يرى صاحبه أن القوة في انتصار رأيه، وإن كان خاطئاً وعقيماً.فؤادك ورتلناه ترتيلاً .
قال تعالى عن جدال الكفار (وقال الذين كفروا لولا نُزِّلَ عليه القرآن جُمْلَةً واحدةً كذلك لنثبت به فؤادك ورتلناه ترتيلاً) فَمِنْ لطف الله تعالى ورحمته بنبيه صلى الله عليه وسلم وحكمته جلَّ جلاله نَزَّل القران العظيم على عبده مُنَجَّمَاً، لِيُثَبِّتَ به فؤادَ رسوله صلى الله عليه وسلم “لأنه كلما نزل عليه شيء من القرآن ازداد طمأنينة وثباتاً، خصوصاً عند ورود أسباب القلق، فإن نزول القرآن عند حُدُوث السبب يكون له موقع عظيم، وتثبيت كثير، أبلغ مما لو كان نازلاً قبل ذلك”.
فلقد ثَبَّت الله تعالى قلب رسوله بالقرآن الكريم الذي به تَثْبُت قلوبُ المؤمنين عند تلاوته وتَدْبُرِه، لما فيه من المواعظ والإرشاد والترغيب والترهيب، وبيان حالات النفس البشرية، وما يعتريها من المنع والجزع والخوف والقلق والاضطراب، فيبين لها ما تَقِرُّ به النفس وتستريح، بمواعظه وأمثاله وقصصه.
ومن مجادلات المشركين سؤالهم عن الروح، قال تعالى (ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي وما أوتيتم من العمل إلا قليلاً).
ولقد بين الله تعالى بإجابة قاطعة أن الروح من علم الله تعالى التي استأثر بها.وبالتالي فإن الإنسان لا يستطيع أن يعرف كنه الأشياء جميعا، فَعِلْمُه قاصر أمام علم الله تعالى غير المتناهي، فمهما بلغ الإنسان من العلم فإنه يجهل أكثر مما يعرف، وقد أرشد الله تبارك وتعالى نبيه صلى الله عليه وسلم إلى أن يطلب مزيد العلم (وقل ربي زدني علماً).
فما أتى به صلى الله عليه وسلم من العلم تفرعت فيه الفنون والتصانيف، وكثرت التخصصات، ومع ذلك علمنا مفتقر إلى علم الله تعالى في كل وقت وحين، فما نحتاج أن نتعلمه يلزم فيه أن نسأل ربنا تبارك وتعالى بقـولنا (ربي زدني علماً).
ومن تَعَنُّت الكفار وجدالهم وكبريائهم أن طلبوا من رسول الله صلى الله عليه وسلم أن لا يجالسوا المستضعفين من المؤمنين، تكبراً واستعلاءً، فقد جاء في صحيح مسلم عن سعد قال: (كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم ستة نفر، فقال المشركون للنبي صلى الله عليه وسلم : أُطْرُد هؤلاء لا يجترئون علينا فنتيجة التكبر وحب التفرد بالجاه والمكانة استصغروا الضعفاء من المؤمنين، ولكن الله تبارك وتعالى يرد عليهم بقوله: (ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه).
إن المقاييس البشرية تستحوذ عليها المادية البحتة، فقد تراعي ما يتراءى لها من مصالحها ومكانتها العاجلة، وتغفل عن المصالح والمكانة الآجلة. ولكن مقاييس الرب سبحانه وتعالى تعلو علواً عظيما، فالمؤمنون المستضعفون خير وأحب إلى الله تعالى من كافر عاص؛ وإن كان سيداً في قومه، فإن مقاييس المادة تتضاءل أمام مقاييس العزيز الحكيم، وبالتالي فالمؤمن الفطن هو الذي يقيس أمور الدنيا بمقاييس الشريعة، التي هي المقاييس الإلهية الربانية.
وإنه لجدير بالمسلمين أن ينظروا إلى هذه المقاييس في تولي الأعمال والمهام والوكالات في جميع شؤون الحياة، وفي جميع مستويات وحقول العمل البشري. فالمستضعف من المؤمنين اليوم قد يكون كبيراً في الغد، فصلاح المؤمن يجلب الخير لمحيط العمل وميدان التسابق في الخيرات، وفي نفس الوقت تظهر أهمية التسابق في إصلاح الظاهر والباطن ليكون المؤمن جديراً بما يوكل إليه من أعمال.
ولئن تكبر المشركون عن مجالسة ضعفاء المؤمنين، فإنه يلزم المؤمن أن لا يحقر أخاه الضعيف من المؤمنين، فيسلك مسلك الكافرين في تكبرهم واستعلائهم، بل يسعى إلى مجالستهم ومؤاكلتهم ومخالطتهم وقضاء حوائجهم، إقتداء بهذا التوجيه الرباني العظيم، الذي يربي في قلوب أتباعه التواد والتراحم والتآخي والتواضع.