لما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يُصيب أصحابه من البلاء والفتنة في دينهم، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم في منعة من الله تعالى، ثم من عمه أبي طالب، قال لهم : لو خرجتم إلى أرض الحبشة، فإن بها ملكاً لا يُظلم عنده أحد، وهي أرض صدق، حتى يجعل الله لكم فرجا مما أنتم فيه فهاجر المسلمون الهجرة الأولى.
ولقد هاجر المسلمون من مكة إلى الحبشة مرتين، وذكر أهل السير أن الأولى كانت في شهر رجب من سنة خمس من المبعث، وأن أول من هاجر منهم أحد عشر رجلاً وأربع نسوة، وقيل وامرأتان، وقيل اثنى عشر رجلاً، وقيل عشرة، وأنهم خرجوا مشاة إلى البحر، فاستأجروا سفينة بنصف دينار.
ولما اشتد البلاء بالمسلمين أذن لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بالهجرة الثانية، فكان جميع من لحق بأرض الحبشة، وهاجر إليها من المسلمين، سوى أبنائهم الذين خرجوا بهم معهم صغاراً وولدوا بها، ثلاثة وثمانين رجلاً.
وإن في الهجرة تَغَرُّب عن الْمَوَاطِنِ والأوطان، ومهد الذكريات، والمصالح والأخوة والخلان، وإنها لمن أصعب القرارات، ولا سيما إذا كانت البلاد المهاجَرُ إليها مختلفة في الحال والطباع، وبالتالي لن يَقْدِمَ إليها إلا من رأى رجحان مصلحة الهجرة والترحال. وما إقدام أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الهجرة إلا بعد أن رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك منفعة لإقامة دينهم وحفظه، والخروج من التضييق والتعذيب إلى بلد لا يُظلم فيها أحد، بل إن في قرار هجرتهم أمر عظيم؛ وهو خروجهم من موطن فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم يعيشون معه؛ ويتلقون خبر السماء منه؛ ويعايشون أخلاقه وآدابه؛ ويستأنسون بمجالسته وسماع حديثه، ولكنه القرار الذي ينتفع به هذا الدين، فيقدمونه على رغباتهم وحاجاتهم الشخصية.
إن هجرتهم تعني التربية على الطاعة في المنشط والمكره، فكيف لو قارن المتكاسل عن أداء العبادات هذا التكاسل والخمول بهجرتهم رضي الله تعالى عنهم.
إن هجرتهم تعني أن ما أصابهم من قومهم المشركين بلاء عظيم، وفي هذا من التعدي عليهم وعلى مصالحهم وحرياتهم الشئ السقيم، وكان من حقهم الدفاع عن أنفسم، ولكن رسول الهدى والرحمة لم يرب فيهم حب الانتقام للنفس، ويثير فيهم نزعة الحقد لقومهم والقتل والاغتيال.
فلم يعالج الأمر صلى الله عليه وسلم بتربيتهم على التنكيل والدسائس، ونشر النهب والسلب في ربوع قومه بمكة الآمنة، والتي لو اتخذها سبيلا لكان لهم في ذلك العذر، ولكنه يعلن صلى الله عليه وسلم بهذا القرار الذي أشار به على أصحابه؛ أن هذا الدين هو دين الرحمة؛ دين إخراج الناس من الكفر والضلال إلى الحق والفلاح بِسُبُل السلام. كما يعلن أنه ليس من أهدافه صلى الله عليه وسلم تصفية الخصوم. فعندما خُيَر رسول الله صلى الله عليه وسلم من ربه عز وجل بأن يجعل للمشركين الصفا ذهبا، لما طلبوا ذلك، على أن يعذبهم عذاباًَ لا يعذبه أحداً إن لم يستجيبوا لدعوته، وبين أن يختار لهم قبول التوبة والرحمة، فاختار الثانية التي تؤكد، أن الهدف ليس هو الانتصار للنفس، بل إن الهدف هو إخراج الناس من الظلمات إلى النور.
وإن هذه السمة الإسلامية تربي في المسلمين الرحمة والشفقة، وعدم العنف ما كان لذلك سبيلا، وأن الإسلام دين الأخلاق التي لم تعرفها حضارات الدنيا قاطبة، تلك التي اتخذت من القهر والتنكيل والاضطهاد سبيلاً إلى تحقيق أهدافها وانتصاراتها.
إن الإدراك التربوي لهذه المعاني يعزز ويوجب على من تقوم على عواتقهم العملية التربوية أن يغرسوا هذا في أذهان الناشئة، وفي كل أطوار عمر الإنسان المختلفة.
إن مما ينبغي أن تدركه المنهجية التربوية أهمية معرفة أهداف دينهم المتعلقة بغيرهم، وسُبل تحقيقها، وفق منهجية الإسلام وهديه، وليس وفق الآراء والأهواء في معزل عن منهجيته صلى الله عليه وسلم القولية والعملية والتقريرية.
ولئن كان من سُبُل المستضعفين استخدام الاغتيال وقطع الطريق والمصالح في ظلمة الليل؛ وغفلة الغافلين، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يعمد إلى شيء من ذلك، وإنما سلك الأساليب التي تبني الإسلام وتحقق له القبول عند الناس حتى عند أعدائه، وهذا هو منهج الأنبياء عليهم السلام، قـال الله تعالى لموسى في دعوة فرعون (فقولا له قولاً لَيِّناً لعله يتذكر أو يخشى) فَعِلَّة القول اللّين للعدو أو الجاحد؛ لَعَلَّه يذَّكر أو أن يخشى، والغلظة مانعة لذلك، ولا تحقق الهدف.
فمعرفة الهدف على حقيقته يحرك السلوك والتصرف والقرارات الحراك الصحيح، الأمر الذي ينبغي أن تعنى به التربية العملية. وعلم الإدارة، والاقتصاد، والسياسة، وفي جميع المجالات البشرية.