بعد رحلة الطائف التي صد عنه من تحدث معهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ودعاهم تأتي رحلة الإسراء والمعراج، فتأتي المكافأة العظيمة من الرب العظيم سبحانه وتعالى، فلئن كابد المشاق صلى الله عليه وسلم فإنه سيرى من آيات ربه تبارك وتعالى (سبحان الذي أسرى بعبده ليلاً من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله لِنريه من آياتنا إنه هو السميع البصير) .
عن أنس بن مالك رضي الله عنه ( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: أُتِيتُ بِالبُرَاقِ. وهو دابةٌ أبيضُ طويلٌ فوق الحمار ودون البغل. يضع حَافِرَهُ عند منتهى طَرْفِهِ. قال فركبتُهُ حتى أتيتُ بيتَ المقدس. قال: فربطته بالحلقة التي يربط بها الأنبياء. قال: ثم دخلت المسجد فصليت فيه ركعتين. ثم خرجت فجاءني جبريل عليه السلام بإناء من خمر وإناء من لبن. فاخترت اللبن. فقال جبريل صلى الله عليه وسلم اخترت الفطرة. ثم عَرَجَ بنا إلى السماء).
وفي هذا الحديث دلالة على مكانة النبي صلى الله عليه وسلم عند ربه سبحانه وتعالى، وفيه كذلك عِظَمُ خلق الله تعالى. وفيه أن من دخل المسجد يبتدئه بالصلاة. ومن فوائد الحديث أن الإسلام هو دين الفطرة، وأن أكل الطيبات من الفطرة كذلك، وأكل الخبائث مناقض لها.
وذكر ابن حجر في الفتح: حديث أبي سعيد عند البيهقي:(حتى أتيت بيت المقدس فأوثقت دابتي بالحلقة التي كانت الأنبياء تربط بها ـ وفيه ـ فدخلت أنا وجبريل بيت المقدس فصلى كل واحد منا ركعتين، وفي رواية (ثم دخلت المسجد فعرفت النبيين من بين قائم وراكع وساجد، ثم أقيمت الصلاة فَأَمَمْتُهُم).
وفي الحديث بيان منـزلة النبي صلى الله عليه وسلم بين الأنبياء عليهم أفضل الصلاة والتسليم.
فعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: كان أبو ذر يُحدث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (فُرِجَ عن سقف بيتي وأنا بمكة، فنـزل جبريل ففرج صدري، ثم غسله بماء زمزم، ثم جاء بطست من ذهب ممتلئ حكمة وإيماناً فأفرغه في صدري؛ ثم أطبقه، ثم أخذ بيدي فعرج بي إلى السماء الدنيا، فلما جئت إلى السماء الدنيا؛ قال جبريل لخازن السماء: افتح، قال: من هذا ؟ قال: هذا جبريل، قال: هل معك أحد ؟ قال: نعم، معي محمد صلى الله عليه وسلم فقال: أُرسِلَ إليه ؟ قال: نعم. فلما فتح علونا السماء الدنيا، فإذا رجل قاعد على يمينه أسْوِدَةٌ وعلى يساره أسْوِدَةٌ، إذا نظر قِبَلَ يمينه ضحك، وإذا نظر قِبَل يساره بكى، فقال: مرحباً بالنبي الصالح والإبن الصالح، قلت لجبريل: من هذا ؟ قال: هذا آدم، وهذه الأسودة عن يمينه وشماله نَسَمُ بنيه، فأهل اليمين منهم أهل الجنة، والأسودة التي عن شماله أهل النار. فإذا نظر عن يمينه ضحك، وإذا نظر قِبَل شماله بكى. حتى عَرَج بي إلى السماء الثانية، فقال لخازنها: افتح، فقال له خازنها مثل ما قال الأول،ففتح. قال أنس: فذكر أنه وجد في السماوات آدم وإدريس وموسى وعيسى وإبراهيم صلوات الله عليهم، ولم يُثبت كيف منازلُهم، غير أنه ذكر أنه وجد آدم في السماء الدنيا، وإبراهيم في السماء السادسة. قال أنس: فلما مر جبريل بالنبي صلى الله عليه وسلم بإدريس؛ قال: مرحباً بالنبي الصالح والأخ الصالح، فقلت: من هذا ؟ قال: هذا إدريس، ثم مررت بموسى، فقال: مرحباً بالنبي الصالح والأخ الصالح، قلت: من هذا ؟ قال: هذا موسى. ثم مررت بعيسى، فقال: مرحباً بالأخ الصالح والنبي الصالح، قلت من هذا ؟ قال : هذا عيسى. ثم مررت بإبراهيم، فقال: مرحباً بالنبي الصالح والابن الصالح، قلت من هذا ؟ قال: هذا إبراهيم صلى الله عليه وسلم قال ابن شهاب: فأخبرني ابن حزم أن ابن عباس وأبا حَبَّة الأنصاري كانا يقولان: قال النبي صلى الله عليه وسلم ثم عُرِج بي حتى ظَهَرْتُ لمستوى أسمع فيه صريفَ الأقلام. قال ابن حزم وأنس بن مالك: قال النبي صلى الله عليه وسلم ففرض الله على أمتي خمسين صلاة، فرجعت بذلك حتى مررت على موسى، فقال: ما فرض الله لك على أمتك ؟ قلت: فرض خمسين صلاة. قال: فارجع إلى ربك؛ فإن أمتك لا تُطيق ذلك. فراجَعني فوضع شطرها، فرجعت إلى موسى، قلت : وضع شطرَها، فقال: راجع ربك، فإن أمتك لا تُطيق ذلك، فراجعت فوَضَع شطرها، فرجعت إليه؛ فقال: ارجع إلى ربك فإن أمتك لا تُطيق ذلك، فراجعته فقال: هي خمس وهي خمسون، لا يُبدل القول لدي، فرجعت إلى موسى، فقال: راجع ربَّك، فقلت: استحييت من ربي، ثم انطلق بي حتى انتهى بي إلى سدرة المنتهى؛ وغَشِيَها ألوان لا أدري ماهي. ثم أُدخِلتُ الجنة، فإذا فيها حبايل اللؤلؤ ؛ وإذا تُرابها المسك.).
إن هذه الرحلة العظيمة، رحلة الإسراء والمعراج فيها من الدروس والفوائد ما يعطي المسلم ويزوده بالكثير مما يحتاج إليه في دار معاده ومعاشه، فأول خطوات الإسراء والمعراج الإعداد لذلك؛ بأن قام جبريل عليه السلام ففرج صدر رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم غسله بماء زمزم، ثم جاء بطست من ذهب ممتلئ حكمة وإيماناً فأفرغه في صدره صلى الله عليه وسلم ثم أطبقه، وقد حصل شق الصدر الأول وهو صغير عند مرضعته حليمة، فكان الشَّقُ الأول لاستعداده لنـزع العلقة التي قيل له عندها: هذا حظ الشيطان منك، والشَّقُ الثاني كان لاستعداده للتلقي الحاصل له في تلك الليلة. وفي هذا تأكيد وبيان أن القلب في الإنسان هو المحطة الرئيسة، والجوهرة الثمينة التي يجب أن يقف عندها المسلم لينظفها من درن الرذائل القلبية، كالاعتقادات الباطلة، والحسد والحقد والكراهية لإخوانه المسلمين، وحب العلو والانتصار والتكبر عليهم، والتنقص من ضعيفهم وفقيرهم، وكراهية الخير لقويهم، فعن أنس رضي الله عنه قال (كنا جلوساً مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يطلع عليكم الآن رجل من أهل الجنة. فطلع رجل من الأنصار، تَنْطِفُ لحيته من وضوئه، قد تعلق نعليه في يده الشمال، فلما كان الغد قال النبي صلى الله عليه وسلم مثل ذلك، فطلع ذلك الرجل مثل المرة الأولى، فلما كان اليوم الثالث، قال النبي صلى الله عليه وسلم مثل مقالته أيضاً، فطلع ذلك الرجل على مثل حاله الأولى، فلما قام النبي صلى الله عليه وسلم تبعه عبدالله بن عمرو بن العاص، فقال: إني لاحَيْتُ أبي، فأقسمت أن لا أدخل عليه ثلاثاً، فإن رأيت أن تؤويني إليك حتى تمضي ؟ فعلت، قال : نعم. قال أنس وكان عبدالله يُحدث أنه بات معه تلك الليالي الثلاث، فلم يره يقوم من الليل شيئاً، غير أنه إذا تَعَار وتَقَلَّبَ على فراشه ذكر الله عز وجل، وكبر، حتى يقوم لصلاة الفجر، قال عبدالله : غير أني لم أسمعه يقول إلا خيراً، فلما مَضَتِ الثلاث ليالٍ، وكِدت أن أحقر عمله، قلت: يا عبدالله لم يكن بيني وبين أبي غضب، ولا هجر ثَمَّ، ولكن سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لك ثلاث مرار: يطلع عليكم الآن رجل من أهل الجنة. فطلعت أنت الثلاث مرار، فأردت أن أوي إليك، لأنظر ما عَمَلُك، فأقتدي به، فلم أَرَكَ تعمل كَثيرَ عمل، فما الذي بلغ بك ما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ فقال: ما هو إلا ما رأيت، قال: فلما وَلَّيْتُ دعاني، فقال: ما هو إلا ما رأيت، غير أني لا أجد في نفسي لأحد من المسلمين غِشّاً، ولا أَحْسُدُ أحداً على خيرٍ أعطاه الله إياه. فقال عبدالله، هذه التي بلغت بك، وهي التي لا نطيق).