وقد قال صلى الله عليه وسلم مبيناً أهمية القلب من الجسد وثمرة صلاحه أو فساده (ألا وإن في الجسد مضغة؛ إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب ) قال ابن حجر: فالقلب أمير البدن، وبصلاح الأمير تصلح الرعية، وبفساده تفسد، وفيه تعظيم قدر القلب، والحث على صلاحه، والإشارة إلى أن لطيب الكسب أثراً فيه، والمراد المتعلق به من الفهم الذي ركبه الله فيه.
ولئن اهتم الكثير من الناس بإصلاح الظاهر دون إصلاح الباطن؛ فإنه يظل هذا الإصلاح إصلاحاً مؤقتاً، يتراجع كثيراً ولا يتقدم إلا قليلاً، لأنه لم يعتن بصلاح أميره، وينقيه وينظفه كما ينظف الإناء بالماء، فلقد غسل جبريل عليه السلام صدر رسول الله صلى الله عليه وسلم بماء زمزم، فهو مقبل على أمر رباني عظيم، وهكذا كل من يريد القدوم إلى ربه في صلاته وفي أعماله؛ أن يعي أهمية تطهير القلب وتنظيفه من الأباطيل؛ وما يلحق بها من المفسدات، في جميع أشكالها وأنواعها ومركباتها، فَيُقْبِل على الله بقلب نظيف طاهر سليم.
ويفيد هذا أهمية التركيز في العملية التربوية على تـزكية القلوب وتطهيرها والعناية بها، وإنه ليحسن بالمربين أن يهتموا بتطهير قلوب من يقومون بتعليمهم وتربيتهم؛ حتى تزكو نفوسهم، وتصبح أوعية صالحة للعلم والحكمة، فلقد أفرغ جبريل عليه السلام ما في الطست من حكمة وإيمان في صدر رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد أن غسله بماء زمزم، فكم يحتاج المسلم إلى الإيمان والحكمة التي تسبقها الطهارة والنظافة القلبية؛ حتى تضم ذلك الإيمان والعلم والحكمة في وادي القلب الفسيح الذي يسع لكل ما يوضع فيه من خير إن عالجه المؤمن المعالجة الصادقة الصحيحة.
وإن معالجة نسيان العلم واكتسابه إنما تبدأ وتنطلق أولاً من استعداد القلب للحفظ والتذكر من خلال تطهيره وتنظيفه .
لقد انطلق جبريل عليه السلام بالنبي محمد صلى الله عليه وسلم بعد هذا الحدث العظيم إلى السماء الدنيا، وهنا يأتي الحرص والأمانة من الخازن الأمين، خازن السماء، حيث لم يفتح لجبريل حتى تأكد وعرف من معه، بأنه محمد صلى الله عليه وسلم وأنه قد أُرسل إليه، وكم هي الأمانة والاسترعاء من مسؤولية عظيمة، فيتولد عنها الحرص ممن استؤمن أمانة علمية أو إدارية، أو زوجية أو أبناءً، أو متاعاً، أو مهمة، أو وظيفة، فيؤدي الذي عليه فيها، ويحرص على حراستها كما حرص حارس السماء على السماء من أن يدخلها غير مأذون له. فإن الله تعالى قادر على كل شيء ولكنه الحكيم العليم، تظهر حكمته وعظمته وعلمه في كل شيء خلقه سبحانه وتعالى. وفيه أدب الاستئذان من جبريل عليه السلام بأن سمى اسمه، ولم يقل: أنا؛ فقط كما يفعل البعض.
ثم أبونا آدم عليه السلام، ينظر يميناً فيضحك، وينظر شمالاً فيبكي، إنها شفقة الأب على أبنائه التي يحتاج أن يترجمها الآباء في الحياة، من حفظ الأبناء والعناية بتربيتهم التربية الدينية التي تُقيهم ناراً وقودها الناس والحجارة، حتى لا نندم يوم لا ينفع الندم، قال تعالى (يا أيها الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم ناراً وقودها الناس والحجارة عليها ملائكة غلاظ شداد لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يُاْمَرُون).
وفي هذه الرحلة العظيمة من الدروس: الترحيب بالقادم، فقد رحب به الأنبياء الذين مَرَّ بهم صلى الله عليه وسلم ودعوه بلقب النبوة، وبصفة الصلاح، وكلهم سابقون له صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، وهكذا يكون المسلم متصف بصفات الأنبياء والمرسلين، من الترحيب والبشاشة للقادمين عليه، وتلقيبهم بما يستحقون من الألقاب التي هي من خصائصهم، خاصة أهل الفضل من أصحاب العلم، والأيدي الكريمة. كما كان ذلك مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ممن جاء ذكرهم في الحديث (مرحباً بالنبي الصالح والأخ الصالح )
ويستفاد من تردده بين ربه تبارك وتعالى وموسى عليه السلام، حرصه صلى الله عليه وسلم على أمته، والأخذ بالنصيحة، والتردد في تكرار الطلب، وفيه أن على المسلم أن يبذل النصيحة حتى وإن لم تُطلب منه، كما نصح موسى عليه السلام لرسول الله صلى الله عليه وسلم دونما طلب، وعلى المسلم أن يقبل النصيحة الصالحة التي تحمل الخير؛ وإن كثرت من الناصح، وأن يتردد في طلب الخير للآخرين إلى أقصى ما يستطيع.
وعلى المسلم أن يسعى بالعمل والدعاء للفوز بالجنة التي دخلها رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين بعض صفاتها.
وفي الحديث بيان منـزلة رسول الله صلى الله عليه وسلم العظيمة عند ربه سبحانه وتعالى، إذ عُرِج به ورأى من رأى من الأنبياء ومن الآيات. وكذلك فيه رحمة الله تعالى بعباده وكرمه جلَّ جلاله؛ إذ جعل الصلوات خمس، وهي خمسون. وفيه كذلك منـزلة الصلاة إذ فرضها الله تبارك وتعالى على نبيه صلى الله عليه وسلم وهو في السماء. وفيه بيان منـزلة الأنبياء عليهم السلام عند ربهم سبحانه وتعالى.
ومن لطائف هذا الحديث أن قال من مر بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم من الأنبياء عليهم السلام (مرحباً بالنبي الصالح والأخ الصالح ) إلا آدم وإبراهيم فقالا (:مرحباً بالنبي الصالح والابن الصالح ) فآدم عليه السلام أب البشرية أجمع، وإبراهيم عليه السلام والد إسماعيل الذي يرجع إليه نسب رسول الله.