لقد سعى رسول الله صلى الله عليه وسلم بين القبائل القادمة إلى مكة للحج أو لأسواق العرب، يدعوهم لعبادة الله تعالى، دونما توانٍ أو خوف أو تردد منه صلى الله عليه وسلم قال ربيعة بن عباد (رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم بذي المجاز يدعو الناس وخلفه رجل أحول، يقول: لا يصدنكم هذا عن دين آلهتكم: قلت: من هذا ؟ قالوا : هذا عمه أبو لهب ) وكان يقول لهم صلى الله عليه وسلم ( يا أيها الناس قولوا لا اله إلا الله تفلحوا) وكان (يقف رسول الله صلى الله عليه وسلم على القبيلة ويقول: يا بني فلان إني رسول الله إليكم؛ آمركم أن تعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا وأن تُصدقوني حتى أنفذ عن الله ما بعثني به).
وهكذا سار رسول الله صلى الله عليه وسلم بين القبائل مبينا هدف الرسالة العظيم؛ داعياً إلى توحيد الله سبحانه وتعالى، في عزيمة الصادق الأمين، الذي لا يُثنيه كيد الكائدين،وتخوين الخائنين، بالرغم من التصدي العنيف من عمه أبي لهب الذي يجري خلفه، مزهداً الناس فيما يدعوا إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وللمرء أن يتصور حال الرسول عليه الصلاة والسلام وهو يمر بين القبائل، يدعوهم والمكذب يجري خلفه ليصد الناس عن الهدى، ومدى أثر ذلك على نفسية الرسول صلى الله عليه وسلم وهو صابر على ذلك، ولا يرد عليه بشيء، بل كان مقداماً في أمره دون أن يأبه بإرجاف المرجفين وتكذيب المكذبين . وكم يواجه الإنسان في دعوته وفي مهنته التربوية من العقبات التي لا تصل إلى هذه الدرجة من التحدي السافر، فيتهاون ويتكاسل، وربما ضخم الموقف ليجد لنفسه مبررا؛ ليتوقف به عن الاستمرار فيما يقوم به، وكم يواجه طالب العلم من مشقة التعلم، والباحث في بحثه، والعامل والإداري والطبيب والمزارع في عمله من مصاعب المهنة فيتكاسل ويستسلم للنكسات، أوليس في نهجه وصبره صلى الله عليه وسلم درساً لكل مستسلم للمصاعب والصدود التي يواجهها. إن هذه العزيمة المتوقدة من رسول الله صلى الله عليه وسلم في دعوته لتشحذ همم المسلمين للعمل الدؤوب الذي يخدم هذه الأمة في جميع مجالات الحياة.
لم يتوقف رسول الله صلى الله عليه وسلم أمام هذه الصعوبات والعقبات والأذى والرد الجافي، وإنما استمر يبحث، فاتصل بالأنصار، حيث قدم سويد بن الصامت الأنصاري إلى مكة حاجاً فقابله رسول الله صلى الله عليه وسلم فتلا عليه القرآن، ودعاه إلى الإسلام فلم يبعد منه، وقال : هذا القول حسن، ثم قدم المدينة، وقُتل، وكان رجال من قومه ليقولون : إنا لنراه قد قُتل وهو مسلم.
وعندما سعى الأوس لمحالفة قريش على الخزرج، قدم أبو الحيسر أنس بن رافع في وفد من بني عبدالأشهل لهذا الغرض، فسمع بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فجاءهم ودعاهم إلى الإسلام وأسمعهم القرآن، ثم عادوا إلى المدينة، وجرت الحرب بين الأوس والخزرج يوم بعاث، ثم لم يلبث إياس بن معاذ أن هلك، وكان قومه يسمعونه يهلل الله تعالى ويكبره ويحمده ويسبحه حتى مات.
إن هذه بدايات قبول الدعوة في المدينة، وكانت بسيطة من حيث العدد، ولكنها إيذاناً وبياناً وباباً يُشير إلى أن الانطلاقة الثانية ستكون في رحاب المدينة، فتعطينا هذه المقدمات أن الشدائد يعقبها الفرج بإذن الله تعالى، وإنما الأمور تسير من حال إلى حال رويداً رويداً، وعلى المسلم أن لا ييأس، ويسعى بكل ما أوتي من قوة ونشاط، في علمه وتعلمه ودعوته وتربيته وفي عموم شؤونه، وكذلك على مستوى الأمة في شؤونها الكلية والجزئية.
ولم ييأس صلى الله عليه وسلم بعد هذين العرضين، وإنما اتصل بوفد الخزرج عندما قدموا في موسم الحج التالي عند عقبة منى، حيث دعاهم صلى الله عليه وسلم وعرض عليهم الإسلام وتلا عليهم القرآن. فلما قدموا المدينة إلى قومهم ذكروا لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ودعوهم إلى الإسلام حتى فشا فيهم، فلم تبقَ دار من دور الأنصار إلا وفيها ذكر من رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فهكذا طلائع البشر تزداد شيئاً فشيئاً، مع جهد لا يعرف الكلل ولا مدخل للملل في حياته صلى الله عليه وسلم فإن الكلل واليأس إذا دب في نفوس الناس، أحدث عندهم قدراً كبيراً من الفتور الذي يؤدي إلى سيء الأمور، وإنه لمن الدواعي التربوية والنفسية المهمة في حياة المسلم أن يُبعد عن جهده وعمله كل عوامل اليأس والخذلان. فإن منهجه صلى الله عليه وسلم ليربي في المتأمل فيه القوة والنشاط والحيوية والعمل الدؤوب، لم يواجه أحد من البشر ما واجهه صلى الله عليه وسلم من الصعوبات والعقبات التي تفتر حيالها قوى الرجال الأقوياء، ولكنه حقاً خير البشرية، حيث قدم للسالكين منهجه النبوي: السيرة الصحيحة والقدوة العظيمة التي تمد المسلم بالقوة والنشاط والحيوية في كل أمر من أمور الدين والدنيا.
إن دروس السيرة النبوية التي يقدمها المعلم لطلابه يجب أن يجلي لهم ما فيها من العبر والحكم التي فيضها لا ينضب، وبقدر عقل المتأمل فيها تعطيه وتُجديه.