بعد بناء إبراهيم وابنه إسماعيل للكعبة المشرَّفة، وبمرور السنون والأعوام، رأت قريش إعادة بناء الكعبة بعد تهدمه، قال ابن إسحاق فلما بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم خمساً وثلاثين سنة، اجتمعت قريش لبنيان الكعبة، وكانوا يهمُّون بذلك ليُسقِّفوها ويهابون هدمها، وإنما كانت رضماً فوق القامة، فأرادوا رفعها وتسقيفها”
فلما وصلت قريش إلى موضع الحجر الأسود اختلفت في وضعه في مكانه، كلٌّ يريد أن يَشْرُفَ بحمله، فقالوا : أول رجل يطلع من الفج، فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقالوا : أتاكم الأمين، فقالوا له؛ فوضعه في ثوب، ثم دعا بطونهم، فأخذوا بنواحيه معه، فوضعه هو صلى الله عليه وسلم .
لقد تطلعت قريش لأمر عظيم وهو إعادة ما ارتفع من بناء الكعبة ، وخافت وهابت الأمر العظيم، وما قصة ابرهة الحبشي عنهم ببعيد، عندما أرادوا هدمها واجتثاثها فأرسل الله تعالى عليه وعلى جنده طيراً أبابيل ترميهم بحجارة من سجِّيل، وقد أنزل الله قصتها في كتابه العزيز (ألم تر كيف فعل ربك بأصحاب الفيل، ألم يجعل كيدهم في تضليل، وأرسل عليهم طيراً أبابيل، ترميهم بحجارة من سجيل، فجعلهم كعصف مأكول)
ولكن لصدق نيتهم وسلامة مقصدهم مكنهم الله تعالى من ذلك الأمر، الذي تنازعوا في التشرف برفع الحجر الأسود إلى مكانه من البناء، فاحتكموا لأول قادم للحرم؛ فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ففرحوا بمقدمه معلنين بصوت واحد : أتاكم الأمين، فشرف الأمانة عظيم والتخلق به أمر عظيم، تربى عليه صلى الله عليه وسلم منذ نعومة أظفاره؛ فلم تُعرَف عنه خيانة صلى الله عليه وسلم بل عُرِف عنه فضائل الأخلاق مجتمعة فيه، فأخمد الله تعالى على يديه فتنة قد تكون بسبب اختلاف قريش في رفع الحجر الأسود، وسدد الله تعالى رأيه ووفقه في فكرة وضع الحجر في ثوب لترفعه بطون قريش معه صلى الله عليه وسلم ، ليضعه هو بنفسه في مكانه، وبالرغم من إنكاره لأعمال الجاهلية الفاسدة؛ وعدم مشاركة قومه فيها إلا أنه يشارك في كل عمل نبيل شريف.
فلم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم أكبرهم سناً، ولكن خلقه الكريم وطباعه الرفيعة ترفع من قدره ومكانته عند قومه ومجتمعه، ليكون هو الحكم الفصل في قضية تُعتَبر من أكبر القضايا الدينية والاجتماعية، فهكذا يرسم لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل بعثته الشخصية الرفيعة الحكيمة التي تضع الأمور في نصابها دون تهويل أو تضعيف للمواقف، فها هي صورة الشاب في شبابه وهي في أحسنها وأكملها صلى الله عليه وسلم .
ويفيد هذا أن نهج الاستقامة، والتخلق بأخلاق الإسلام؛ تصنع لصاحبها مكانة ومنـزلة لا يمكن أن يحققها بالدينار والدرهم.