وهذه الصفات التي تضمنتها الآية أساس في نجاح المربي والداعية والإداري والصديق والرئيس والمدير. بل أساس لنجاح الإنسان؛ أياً كانت دائرته التي هو فيها.
فالإنذار عن الشر وما يؤل بالإنسان إليه أمر مطلوب من الأب في منـزله، والعامل في عمله، والمدير في إدارته، والصديق بين أصدقائه، ولا تستقيم أمور الجماعة المسلمة إلا بعملية الإنذار الدائمة المستمرة، التي لا تتوقف ما سار الإنسان وسعى، لأنه معرض للخطأ والغلط. والنصح أمر لا ينفك عنه أمر هذه الأمة على مستوى الأفراد والجماعات.
وتعظيم الرب جلَّ جلاله من لوازم العبودية له سبحانه وتعالى على خلقه، وإذا عظَّم المربي والداعية والإداري والصديق ربه عز وجل أثر ذلك في سلوكه وفي تعامله مع من يتعايش معهم، فإجلال الرب وتكبيره يدفعه إلى أن لا يتعاظم على الناس، فالله هو الأكبر. كما يدفعه ذلك إلى تعظيم الرب فيما يقوم به من توجيه وإرشاد وإصدار أوامر، وتفويض صلاحيات، ومنح سلطات، فيعرف أنه مسؤول أمام الرب العظيم سبحانه وتعالى؛ الذي له الكبرياء في السماء والأرض، فإن استشعار (الله أكبر) في قلب المسلم تُعلمه دروس لا يستوعبها هذا الكتاب.
وتطهير الثياب في الآية الكريمة كما قال بعض أهل العلم، قد يقصد بها أعماله كلها، بتطهيرها وتخليصها، والنصح بها، وإيقاعها على أكمل الوجوه، وتنقيتها عن المبطلات والمفسدات والمنقصات، من شر ورياء ونفاق وعُجب وتكبر وغفلة وغير ذلك، مما يؤمر العبد باجتنابه في عباداته، ويدخل في ذلك تطهير الثياب.
وتطهير الثياب والنفس من الدنس والأرجاس والأحقاد والكبر والحسد ومنكرات الأخلاق أساس قوي في قبول توجيه المربي والداعية والمدير والمدرس، والزوج والأب، لأن النفس لا تتعلق بنصح الناصح إلا إذا كان أهلاً لذلك، ولا يكون الإنسان أهلاً لذلك إلا إذا كان طاهراً في عبادته من الشرك، وفي أخلاقه من الرذائل، وفي ملابسه من النجاسات والأقذار، فلا يرى العاقل قبولاً للتوجيه ممن عري من تلك الصفات، وهذا ليس خاص بالدعاة، بل لكل فردٍ في أي موقع كان من خارطة التعامل الواسعة.
وكذا يلزم أولئك المؤثرين وغيرهم من الناس هجر المبطلات الباطلات من الأوثان وكل ما يُتعلَّق به من غير الله تعالى، فالذي يتعلق بالمخلوقين دون الخالق يظل منكسر الفؤاد لهم، يرضى برضاهم ويسخط بسخطهم، فتستحوذ عليه الأوهام والاضطرابات النفسية، نتيجة تعلقه بالمخلوق، فيرجو من المخلوق تحقيق الآمال ودفع الشرور والمضرات، ولا شك أن من أخذ بهذه الصفة أو بشيء منها ضعفت عزيمته، وقلت حيلته، ووهن تدبيره وتفكيره، وبالتالي كيف تُقبل توجيهاته الإدارية أو التربوية أو التعليمية أو الأسرية ؟ وهو الضعيف المنكسر أمام الضعفاء من الناس.
وإن البعد عن التمنن بما أسدى إلى الناس من معروف وإحسان، يُعتبر من مطالع عوامل التأثير، ومحبة الناس له، لأن من يتفضل على الناس بالخير والجاه، ثم يَمُنُّ عليهم بما صنع من معروف على سبيل التقريع، أو على سبيل التفضل عليهم؛ فإنهم يزهدون في معروفه، ويحملون له الحقد، والكراهية والبغضاء، وبالتالي لا يستجيبون له، ولا يتفاعلون مع توجيهاته، مهما بلغت من الصواب، لأن النفوس البشرية الفاضلة ترفض هذا السلوك وتأباه.
فإذا وجه المدير أو المربي أو الإداري أو الصديق أو الداعية المتصف بالمن، فلن يجد لتوجيهه أبواباً مفتوحة ونوافذ مُشَرَّعة، فضلاً عن نهي الله تعالى عن هذا السلوك، قال تعالى (الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله ثم لا يُتْبِعون ما أنفقوا مَنَّاً ولا أذىً لهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون قول معروف ومغفرة خير من صدقة يتبعها أذىً والله غني حليم يا أيها الذين آمنوا لا تُبْطِلُوا صدقاتكم بالمَـنِّ والأذى).
ثم مـن أقـوى مـا يتقوى بـه الناجـح من المربين والمعلمين والموظفين والأصدقاء، وأصحاب المهن والأعمال هـو الصبر؛ الذي تكفل الله تعالى بثوابه؛ في بشارة منه سبحانه تبارك وتعالى، حيث قال جلَّ جلاله في كتابه الكريم (وبَشِّر الصابرين الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون). فالصديق الذي يصبر على جفوة الأصدقاء وزلاتهم يوفقه الله تعالى، بل وتنغرس له محبة في قلوب أصدقائه، وكذا المدير الذي يصبر على موظفيه وأعباء عمله، سيجد لذلك فرجاً وتدبيراً، وكذا الداعية والمربي، والرجل في بيته، والمرأة في دارها، والمدرس في فصله، والطالب مع معلميه ومدرسيه.
فهذه الآيات التي هي مطلع سورة المدثر عَلَّمت رسول الله صلى الله عليه وسلم سُبُل تحقيق أهداف النبوة؛ التي هي أعظم التكاليف، فكيف إذا طبقها المرء في حياته، وفي أعماله التي لا ترقى إلى تكاليف أعمال النبوة، فكما حقق بها صلى الله عليه وسلم نجاح دعوته فكذلك كل مسلم يستطيع أن يحقق بها النجاح في الخير.