قال ابن هشام: وكان بين ما أخفى رسول الله صلى الله عليه وسلم أَمْرَهُ واستتر به إلى أن أمره الله تعالى بإظهار دينه ثلاث سنين _فيما بلغني _ من مبعثه وقال ابن القيم: وأقام صلى الله عليه وسلم بعد ذلك ثلاث سنين يدعو إلى الله سبحانه وتعالى مستخفياً، ثم نزل عليه قوله تعالى (فاصدع بما تؤمر وأعرض عن المشركين).
إن الله تعالى الآمر بما شاء والذي أذعنت له الخلائق، وإذا أراد شيئاً قال له: كن فيكون، لم يأمر نبيه صلى الله عليه وسلم بدعوة قومه إلا بعد ثلاث سنين من بعثته صلى الله عليه وسلم فيتهيأ له الأمر وتتهيأ له القاعدة الأساسية المكونة من رسول رب العالمين الذي تفاجَأ بنـزول الوحي وهابه، وقال: زملوني زملوني، وليعتاد الأمر الذي لم يكن له معرفة به من قبل، فتتهيأ له نفسُه، وتتهيأ له قُواه ومشاعره بالتضحية والتولي عن الراحة إلى المجاهدة في كل جوانبها (يا ايها المدثر قم فأنذر وربك فكبر وثيابك فطهر والرجز فاهجر ولا تمنن تستكثر ولربك فاصبر).
قضايا كبيرة وعالية لا بد أن يستوعبها النبي الأمي من ترك التدثر إلى الإنذار، وتكبير الله تعالى قولاً وعملاً، وتطهير الذات ظاهراً وباطناً، وإعلان التوحيد الخالص الذي يقتضي رفض عبادة كل ما عدا الله سبحانه وتعالى، مع عدم التمنن على من يُحسن إليهم ، والصبر على ذلك.
ويأتي بعد تلك القاعدة وجود الأعوان المخلصين الذين تتقوى بهم الدعوة، لتنتقل من السرية إلى العلنية، حيث دخل في الإسلام أولاً: زوجته خديجة وابن عمه علي بن أبي طالب ومولاه زيد بن حارثة، وصاحبه أبو بكر الصديق رضي الله تعالى عنهم أجمعين. وبهذه الكوكبة الأخيار بدأ ينتشر الإسلام، ويدخل فيه خلقٌ آخر خفية.
إنها مرحلة التكوين التي تنطلق من تربية الفئة القليلة التربية التي تغرس لديهم حب التضحية، من أجل كلمة الله تعالى، ونُصْرة دينه ونبيه، بالتي هي أحسن، فلم يأمر الله تعالى نبيه بمقاتلة قومه والهجوم عليهم بالكلمة أو العتاد، وإنما بالحكمة المشتملة على اللطف والصبر على الأذى وتحمله، لأن الهدف ليس هو تحقيق الرفعة عليهم، بل رحمتهم والشفقة عليهم من نار جهنم؛ وحب الخير لهم بدخول هذا الدين الذي به يسعد الإنسان في الدنيا والآخرة.
لأن الذي يدعو أو يربي وهو يرجو الرفعة لنفسه والانتصار على الناس؛ يكون تفكيره مُنْصَبُّ على استخدام الأساليب التي تحقق ذلك؛ ومنها استخدام القوة بأنواعها؛ واستضعاف المقابل؛ بينما الذي يدعو خوفاً على الناس ورحمة بهم وشفقة عليهم فإنه يتلطف بهم كما تتلطف الأم بابنها ليأكل أو ينـام، أو يقضي حاجـة من حوائجه، فالطفيل رضي الله عنه عندما دعا قومه وجد منهم صدوداً، فطلب من الرسول صلى الله عليه وسلم أن يدعو عليهم، ولكنه صلى الله عليه وسلم دعا لهم فقال (اللهم اهد دوساً وائت بهم ) نتيجة شفقته صلى الله عليه وسلم ومحبته لإنقاذ الناس من الكفر وما يتبعه من العذاب المهين، قال تعالى عن منهج رسوله صلى الله عليه وسلم (فبما رحمة من الله لِنْتَ لهم ولو كنت فَظَّاً غليظ القلب لانفضوا من حولك) .
وهذا ينطبق على الرجل في أهله، والرجل في مهنته وعمله، والإداري في إدارته، والرئيس في رئاسته، والصديق بين أصدقائه، فإذا كان الواحد منهم يريد الانتصار لذاته؛ جرياً وراء حظوظ النفس والهوى؛ غير مدرك لأهداف الإسلام وغايته ولمنهج المصطفى صلى الله عليه وسلم وغير عارف بمنهج الله تعالى الذي أراد أن يسلكه كل أحد في ميدان التعامل، فإن عاقبة أمره خسراناً.
فالرجل الذي يريد أن يحقق انتصاراً لنفسه في منـزله من خلال فرض الآراء والإرادات دون اكتراث لحالات النفس الإنسانية وما جبلت عليه؛ وتفاوت العقول والأفهام، وتباين ما اعتاده الإنسان في حياته من سلوكيات، فإنه غالباً ما يفشل في إدارة منـزله، خاصة إذا واجه من لا يطيع إلا على بصيرة ومعرفة.
وكذا الرجل في إدارته سواء أكان رئيساً أو مرؤوساً، يلزمه معرفة المنهجية النبوية في التغيير وفق سنن الله الاجتماعية، فيلزم التأمل والنظر والتهيئة النفسية والاجتماعية لما يُريد أن يُحدثه من تحسين إداري، وأن يستخدم قوة السلطة في رحمة وشفقة على العمل والعامل. لا على العمل دون العامل.
وكذا الصديق في دائرة صداقته، لا يكن ذلك الرجل الذي يهدف من الصداقة الاستحواذ على العقول والقلوب بقوة النفوذ، بل لابد من مراعاة الأخلاق والطباع وحالات النفس البشرية، وما يعتريها من تقلب، وما جُبلت عليه. مع التزام الإنسان بما جاء في قوله تعالى (يا ايها المدثر قم فأنذر وربك فكبر وثيابك فطهر والرجز فاهجر ولا تمنن تستكثر ولربك فاصبر).
فإذا كان سياق الآية مخاطبة النبي صلى الله عليه وسلم للجهر بالدعوة مع الاتصاف بتلك الصفات الواردة في الآية الكريمة، فإن هذا منهج قرآني رباني يلزم المسلم الالتزام به، ولا سيما أهل العلم، لأنهم ورثة الأنبياء، وكذا عامة الناس، فإنهم دعاة في داخل منازلهم، وبين أصدقائهم، بقدر ما عندهم من العلم.