في أول يوم من المحرم سنة سبع من البعثة، دخل المسلمون شعب أبي طالب، حيث رأت قريش أن الصحابة قد نزلوا أرضاً أصابوا بها أماناً، وأن عمر أسلم، وأن الإسلام فشا في القبائل؛ فأجمعوا أن يقتلوا رسول الله صلى الله عليه وسلم.. .
يبين ويفيد هذا مدى انتشار الإسلام في القبائل، ومعرفة الناس بخبر نبوة المصطفى صلى الله عليه وسلم وذلك خلال سبع سنوات من مبعثه عليه الصلاة والسلام. ويؤكد هذا أهمية الزمن في تحقيق الأهداف، والصبر على المصاعب والمشاق، وأن الحق له من يعارضه؛ ويصد عنه. وكذلك أهمية الأرض الآمنة للجانب الدعوي، لحماية الضعفاء. وأهمية الأعوان الأقوياء في تحقيق الأهداف، وفيه كذلك عناية المنهج الإسلامي بالسنن الاجتماعية، والأخذ بها؛ وعدم إهمالها، مثل: وجود الأذى وتحمله، والعمل والصبر على مشاقه، والبحث عن الأسباب والأخذ بها، فلم يعطل صلى الله عليه وسلم هذه السنن بانتظار النصر من دون الأخذ بها، وهو المرسل من الله تعالى، القادر على كل شيء سبحانه وتعالى.
فبلغ ذلك أبا طالب، فجمع بني هاشم وبني المطلب فأدخلوا رسول الله صلى الله عليه وسلم شعبهم؛ ومنعوه ممن أراد قتله، فأجابوه إلى ذلك حتى كفارهم، فعلوا ذلك حمية على عادة الجاهلية.
ويبين هذا أهمية الأسباب والأخذ بها، وكذلك أهمية الدعم والمناصرة من الغير، وكيف أن الله تبارك وتعالى سخر لنبيه أنصاراً ممن لا يُدينون بدين الإسلام، حمية على عادة الجاهلية.
وهذا يفيد أهمية اعتضاد الدعاة بالدولة المسلمة، لكي يتقوى بها الدين وينتصر. وأن الفصام بين الدعاة والدولة المسلمة لا يحقق القوة للدين حتى ينتصر، فالدين دين الله تعالى؛ والنصر من الله العظيم، ولكن الله جعل سنناً، إذا أخذ بها المسلم مع التوكل على الله تعالى نال مراده إذا شاء الله سبحانه وتعالى.
وبلغت هذه المقاطعة ذروتها وجبروتها؛ بأن أجمعوا أن يكتبوا بينهم وبين بني هاشم والمطلب كتاباً؛ أن لا يعاملوهم ولا يناكحوهم حتى يُسَلِّموا إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ففعلوا ذلك، وعلقوا الصحيفة في جوف الكعبة، وكان كاتبها منصور بن عكرمة، وقيل غيره، فَشُلَّت أصابعه.
ويبين هذا المسلك الشدة في المقاطعة والمحاربة لهذا الدين، والمصاعب التي واجهت النبي صلى الله عليه وسلم في أمر دعوته، وقابل ذلك بالصبر والاجتهاد والأخذ بالأسباب. وكذا يبين ذلك العقوبة التي نـزلت بكاتب الصحيفة الظالمة، مما يفيد خطورة الظلم والمشاركة فيه، وأن الله تعالى قد يُعجل العقوبة للظالم، أو بشيء منها.
فانحازت بنو هاشم وبنو المطلب إلى أبي طالب، فكانوا معه كلهم إلا أبا لهب فكان مع قريش. فأقاموا على ذلك سنتين أو ثلاثاً.
ويفيد هذا طول الفترة الزمنية من البلاء والابتلاء التي صبر عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن معه في الشعب. مما يؤكد ويبين أن الابتلاء لا يعني في كل الأحوال الجفاء من الله تعالى لعبده أو لعباده، فلله الحكمة البالغة والإرادة المطلقة.
وتقول روايات السيرة النبوية: لم يكن يأتيهم شيء من الأقوات إلا خفية، حتى أنهم كانوا يؤذون من اطلعوا على أنه أرسل إلى بعض أقاربه شيئاً من الصلات، إلى أن قام في نقض الصحيفة نفر من أشدهم في ذلك صنيعاً هشام بن عمرو بن الحارث العامري. فكان يصلهم وهم بالشعب. ثم مشى إلى زهير بن أبي أمية، فكلمه في ذلك؛ فوافقه، ومشيا جميعا إلى المطعم بن عدي؛ وإلى زمعة بن الأسود، فاجتمعوا على ذلك. فلما جلسوا بالحجر، تكلموا في ذلك وأنكروه، وتواطئوا عليه. فقال أبو جهل: هذا أمر قضي بليل. وفي آخر الأمر أخرجوا الصحيفة؛ فمزقوها، وأبطلوا حكمها، وذكر ابن هشام: أنهم وجدوا الأرضة قد أكلت جميع ما فيها إلا اسم الله تعالى. وأما ابن إسحاق وموسى بن عقبة، وعروة فذكروا عكس ذلك: أن الأرض لم تدع اسماً لله إلا أكلته، وبقي ما فيها من الظلم والقطيعة، فالله أعلم.
إن المحن والمصائب والتمحيص يُساير المسلم والأمة في كل مكان وزمان، حتى خير الأمة التي ضمت رسول الله صلى الله عليه وسلم ينوبها من المحن الشدائد العظام.
فرسول الله صلى الله عليه وسلم وهو النبي المجتبى يُبتلى ويصبر ولا يثنيه شيء من المصاعب والشدائد، فلم يستسلم لأحد ولا لجماعة مهما كانت قوتها وجبروتها، بالرغم من تكاتف الأعداء عليه وعلى من أسلم.
وفي نفس الوقت تتجدد المعاملة الكافرة في الأزمان والأمكنة، من شَنِّ المقاطعة والتجويع، والمقاطعة اجتماعياً واقتصادياً، والتكاتف ضد الإسلام وأهله، رغبة في صد أهله عنه، والنكوص إلى الكفر والشرك والجهل.
كما أن فلول الكفر تتجمع وتتحد لمنازلة الإسلام وأهله، بغية انحطاطه ودحره وهزيمته.
ومما تكتنـزه لنا السيرة النبوية العطرة من دروس وعبر، هو الصبر على البلاء مهما طال زمنه وقويت شدته، فعاقبته النصر والظفر والعزة، وعدم الانكسار للباطل وأعوانه، والتأثر بعتاده وقوته.
إن هذا الحصار لم يكن لأشهر، بل كان لسنتين أو ثلاث، وإنه لزمن طويل، وأمر عصيب.