ثم لما علم كفار قريش بهجرة المسلمين وتدفقهم على المدينة؛ خَشَوا على أنفسهم من أن يَكْثُرَ سواد المسلمين ويتقوَّون؛ فتنقلب الدائرة عليهم؛ فأخذوا يضعون العراقيل أمام المسلمين؛ لمنعهم من الهجرة, ولعل في حديث هجرة أبي سلمة وأم سلمة صورة ومثال لبعض تلك العراقيل: فعن أم سلمة ـ رضي الله تعالى عنها ـ: أنه لما أجمع أبو سلمة الخروج إلى المدينة رحل لي بعيره؛ ثم حَمَلني عليه، وحمل معي ابني سلمة بن أبي سلمة في حجري، فلما رأته رجال بني المغيرة؛ قاموا إليه: فنـزعوا خطام البعير من يده فأخذوني منه، وغضب عند ذلك بنو عبد الأسد، رهط أبي سلمة، فقالوا: لا والله؛ لا نترك ابننا عندها إذ نزعتموه من صاحبنا، قالت: فتجاذبوا بُنَىَّ سلمة بينهم حتى خلعوا يده، وانطلق به بنو عبد الأسد، وحبسني بنو المغيرة عندهم، وانطلق زوجي أبو سلمة إلى المدينة….
يظهر في هذا المشهد من هذه الحادثة المعاضدة الجاهلية؛ والعصبية القبلية، دون مراعاة لحق الرجل في أهله، أو حريته في التصرف، والانتقال من مكان لآخر. بل غابت عندها الجوانب العاطفية، المتعلقة بالأمومة والأبوة، حتى تسابقت الأيادي على طفلها؛ لتنخلع يده. ولكنها الإرهاصات التي تسبق فجر النور المضيء للعقول؛ والمزكي للنفوس. فيفيد هذا الموقف فضل هذا الدين على أولئك؛ وعلى كل من اعتنقه ودان به في كل زمان ومكان.
قالت: فَفُرِّق بيني وبين زوجي وبين ابني، قالت: فكنت أخرج كل غداة فأجلس بالأبطح؛ فما أزال أبكي حتى أمسي سنةً أو قريباً منها، حتى مر بي رجل من بني عمي، فرأى ما بي فرحمني، فقال لبني المغيرة: ألا تُخرجون هذه المسكينة! فَرَّقْتُم بينها وبين زوجها وبين ولدها ! قالت: فقالوا: الحقي بزوجك إن شئت، قالت: وَرَدَّ بنو عبد الأسد إلىَّ عند ذلك ابني….
فسنة أو قريباً منها تبكي ابنها وزوجها، فلم تجد من قومها إلا رجلاً واحداً يتعاطف معها؛ بعد تلك الفترة الزمنية الطويلة، ليتبين قدر الضعف العاطفي، بل موته أحياناً عندما يكون في الحمية الجاهلية، وبعيداً عن نور الإسلام وهديه.
ثم تقول أم سلمة: فارتحلتُ بعيري، ثم أخذت ابني فوضعته في حجري، ثم خرجت أريد زوجي بالمدينة، قالت: وما معي أحد من خلق الله. قالت: فقلت: أَتَبْلَّغُ بمن لقيت حتى أَقْدِم على زوجي؛ حتى إذا كنت بالتنعيم لقيت عثمان بن طلحة بن أبي طلحة، فقال لي : إلى أين يا بنت أبي أمية ؟ قالت: فقلت: أريد زوجي بالمدينة. قال: أو ما معك أحد ؟ قالت: فقلت: لا والله، إلا الله وبُنَيَّ هذا. قال: والله ما لك من مترك، فأخذ بخطام البعير، فانطلق معي يهوي بي، فوالله ما صحبت رجلاً من العرب قط أرى أنه أكرم منه، كان إذا بلغ المنـزل أناخ بي، ثم استأخر عني، حتى إذا نزلت استأخر ببعيري، فحط عنه، ثم قيده في الشجرة، ثم تنحى عني إلى شجرة، فاضطجع تحتها، فإذا دنا الرواح قام إلى بعيري فقدمه فرحله، ثم استأخر عني، وقال: اركبي . فإذا ركبت واستويت على بعيري أتى فأخذ بخطامه، فقاده، حتى ينـزل بي. فلم يزل يصنع ذلك بي حتى أقدمني المدينة، فلما نظر إلى قرية بني عمرو بن عوف بقباء، قال: زوجك في هذه القرية، وكان أبو سلمة بها نازلاً، فادخليها على بركة الله، ثم انصرف راجعاً إلى مكة.
فكانت تقول: والله ما أعلم أهل بيت في الإسلام أصابهم ما أصاب آل أبي سلمة، وما رأيت صاحباً قط كان أكرم من عثمان بن طلحة.
وهكذ توضح هذه القصة الأليمة لأم سلمة وأبي سلمة المعاناة القاسية التي تحملاها لقاء إسلامهما، ولقاء الهجرة إلى المدينة للفرار بدينهما من سطوة كفار قريش، فيتحمل أبو سلمة فراق زوجه وولده لقاء ظفره بدينه؛ تاركاً زوجته وابنه لله تعالى؛ الحافظ لكل شيء، وإن موقفه ليذكر باستجابته لقوله تعالى ( يا أيها الذين آمنوا لا تلهكم أموالكم ولا أولادكم عن ذكر الله ومَن يفعل ذلك فأولئك هم الخاسرون).
ولَكَم يلتهي الناس بأزواجهم وأولادهم عن طاعة الله تعالى، بل ربما يُقْدِّم رغبات زوجته وأبنائه التي فيها شيء من المعصية لله تعالى، وإنه لفرق شاسع وكبير بين تضحية أبي سلمة وبين من يذهب بزوجته وأولاده إلى المعاصي، أو لا ينهاهم عن المعاصي، أو يستجيب لهم في معصية الله تعالى.
ثم ها هي الأم والزوجة المستضعفة تواجه فراق زوجها قصراً؛ والمهاجر إلى مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم وفراق الابن الذي انتزع من حِجْرِها عنوة، ولم تجد من يُنصفها ويُعيد إليها حقوقها في جاهلية توقفت عنها مكارم الأخلاق؛ لقاء الإجحاف والتنكيل من كفار قريش، فلم يعد عندها إلا وسيلة إظهار ما أصابها لمن يمر بالأبطح، وهي تخرج فيه يومياً تبكي وتشكوا حالها، حتى أنقذها الله تعالى بابن عم لها، أعطاها حقها وحريتها وأعاد إليها ابنها لتنطلق به إلى المدينة وحدها، فَغَلَبَ فَرَحُهَا مخاوف الطريق وأهواله، ولكنه حب الهجرة إلى الله تعالى بدينها. وعناية الله تعالى بها؛ إذ سخر لها سبحانه وتعالى عثمان بن طلحة بن أبي طلحة؛ الذي أظهر الله عليه مكارم الأخلاق من العفة والعناية بأم سلمة، ومعرفة حقها من حفظ لها وعناية؛ في نُبل من الأخلاق؛ حتى قالت عنه أم سلمة رضي الله عنها: ما رأيت صاحباً قط أكرم من عثمان بن طلحة، فها هي المرأة المسلمة تُقدم لمثيلاتها الكفاح والصبر على الأذى في دينها، ولم يفتنها شيء عن إيمانها، بل بذلت جهدها في تحقيق قصدها؛ فوفقها الله تعالى الكريم الجواد.
وهكذا يحفظ الله تعالى لأبي سلمة زوجته وولده ويعيدهما إليه في حفظ منه جلَّ جلاله. كما قال صلى الله عليه وسلم (احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك).