من أهم ما اعتنى به النهج الإسلامي في تربيته للأمة الربط بين الأهداف والوسائل؛ للعلاقة الوطيدة بينهما، إذ أنه كلما كانت الأهداف صحيحة جاءت الوسائل تبعاً لها صحيحة، بما يؤكد أهمية تصحيح الأهداف والعناية بها، سواء في المتعلقات الفردية الشخصية، أو في متعلقات الأمة الكبرى، كحفظ وحدتها وتقوية قوتها.
فالإنسان عندما يظلمه آخر فإنه غالبا ما يفكر في الانتصار لنفسه ولذاته، وربما تمادى؛ حتى لو أضر ذلك بالأمة ودينها ومقدراتها، نتيجة سيطرت حب الذات على بقية الأولويات واستعلائها عليها، ومن ثم يتبع ذلك التفكير في اختيار الوسائل من خلال حظوظ النفس، وهذا كله في حق من ظلمه غيره، فكيف بمن ينظر لمصالحه الشخصية وهواه دون أن يظلمه أحد، وإنما اجتالته الحيل النفسية الوهمية ليسلك مالا تحمد عقباه.
ولكن بالنظر في التطبيق العملي لمنهج الإسلام من سيرة خير الأنام صلى الله عليه وسلم في الربط بين الأهداف العليا واختيار الوسائل المحققة لها، سيدرك العاقل ربانية هذا النهج في خيارات النبي صلى الله عليه وسلم لأحسن الوسائل، من أجل تحقق مجد الإسلام في أحسن الصور الأخلاقية، والتي تغيبت عند بعض الناس في أزمنة التاريخ.
جاء في الحديث (أن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم حدثته أنها قالت للنبي صلى الله عليه وسلم هل أتى عليك يومٌ كان أشد عليك من يوم أحد ؟ قال: لقد لقيت من قومك ما لقيت: وكان أشد ما لقيت منهم يوم العقبة إذ عَرَضتُ نفسي على ابن عبد يا ليل بن عبد كُلال فلم يجبني إلى ما أردت، فانطلقت وأنا مهموم؛ على وجهي، فلم أستفق إلا وأنا بقرن الثعالب، فرفعت رأسي؛ فإذا أنا بسحابة قد أظلتني، فنظرت فإذا فيها جبريل، فناداني؛ فقال: إن الله قد سمع قول قومك لك؛ وما ردوا عليك، وقد بعث الله إليك مَلَكَ الجبال لتأمره بما شئت فيهم، فناداني مَلَكُ الجبال، فسلم علىَّ ثم قال: يا محمد، فقال: ذلك فيما شئت، إن شئت أن أطبق عليهم الأخشبين. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: بل أرجو أن يُخْرج الله من أصلابهم من يعبد الله وحده؛ لا يشرك به شيئاً )
فبالرغم من ظلم قومه له ورميه بالسحر والكهانة والجنون، بل تجرؤا عليه حتى برمي الأذى عليه صلى الله عليه وسلم وتعذيب أصحابه، ورميه بالحجارة من الصبية، ثم يأتيه جبريل ومَلَك الجبال عليهم السلام، وهو في أشد ما يكون من الكرب، ويستأذنه مَلَك الجبال ليطبق عليهم الأخشبين ، فيقول صلى الله عليه وسلم (بل أرجو أن يُخْرج الله من أصلابهم من يعبد الله وحده؛ لا يشرك به شيئاً).
فالهدف: عبادة الله تعالى وليس تحقيق النصرة الذاتية، بل نصرة العبودية على حساب احتمال الأذى.
فلو كان الهدف هو انتصار الذات وتحقيق أهداف ما ينجم عن الغضب، والأخذ على من ظلمه بالقول والفعل، لوافق صلى الله عليه وسلم على القضاء عليهم، ولأصبحوا حديثا من أحاديث الزمان. خاصة وأنه كان في أشد ما أصابه صلى الله عليه وسلم من الأذى والصدود. ولكنه صلى الله عليه وسلم نظر للهدف الأسمى وهو تحقيق العبودية لله تعالى من الناس، وإنقاذهم من الكفر والجهل والنار إلى الإسلام والنور والعلم وجنة عرضها السموات والأرض، بأن يعبدوا الله تعالى، خالقهم ورازقهم، حتى ولو كان على حساب الأذى الذي لحقه صلى الله عليه وسلم وبالتالي اختار الوسيلة التي تحقق ذلك الهدف، وهي وسيلة العفو والصبر على الأذى وتكرار الدعوة. فتحقق هذا الهدف، ودخل الناس في دين الله تعالى.
ومن ذلك يتضح أن فرقا شاسعا بين من يفكر في الانتصار لرؤيته الخاصة وأخطائه الفكرية حتى ولو أدى ذلك إلى الإجهاز على بعض عباد الله تعالى وبين من يفكر في جلب الخير للناس، وجلب الناس للخير، بتحقيق العبودية لله تعالى، وتحقيق وحدة أمته الإسلامية.
وهذا يؤكد أهمية التربية الفكرية في الإفادة من نهجه صلى الله عليه وسلم في الربط بين الأهداف الصحيحة ووسائلها السليمة.
وللموضوع بقية يتم استكمالها إن شاء الله تعالى… .