عندما تبلغ دواعي الصلة ذروتها تتهشم دونها عوامل التكبر، وتتحطم أمامها دواعي التقاطع، وتلين الرقاب تواضعا لله تعالى، وهذا ما جسدته تربية الرسول صلى الله عليه وسلم في أصحابه بمنهج الله تعالى العظيم، كما يتضح من هذا الموقف:
عن عوف بن مالك بن الطفيل، وهو ابن الحارث، وهو ابن أخي عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم لأمها (أن عائشة حُدِّثت أن عبدالله بن الزبير قال في بيع أو عطاء أعطته عائشة: والله لتنتهين عائشة أو لأحجرنَّ عليها، فقالت: أهو قال هذا ؟ قالوا : نعم. قالت: هو لله علي نذر أن لا أكلم ابن الزبير أبداً، فاستشفع ابن الزبير إليه حين طالت الهجرة، فقالت: والله لا أُشَفعُ فيه أبدا، ولا أتحنث إلى نذري.
فلما طال ذلك على ابن الزبير، كلم المِسور بن مخرمة وعبدالرحمن بن الأسود بن عبد يغوث، وهما من بني زُهرة. وقال لهما: أنشدكما بالله لما أدخلتماني على عائشة….
فقالا: السلام عليك ورحمة الله وبركاته، أندخل ؟ قالت عائشة: أدخلوا. قالوا: كلنا ؟ قالت: نعم، ادخلوا كلكم. ولا تعلم أن معهما ابن الزبير. فلما دخلوا، دخل ابن الزبير الحجاب فاعتنق عائشة، وطفق يناشدها ويبكي، وطفق المسور وعبدالرحمن يناشدانها إ لا ما كلمته وقبلت منه، ويقولان: أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عما قد علمتي من الهجرة، فإنه لا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث ليال، فلما اكثروا على عائشة من التذكرة والتحريج، طفقت تذكرهما وتبكي وتقول: إني نذرت والنذر شديد، فلم يزالا بها حتى كلمت ابن الزبير، وأعتقت في نذرها ذلك أربعين رقبة. وكانت تذكر نذرها بعد ذلك فتبكي حتى تَبُلَّ دموعها خمارها.) البخاري (4/105) برقم (6073، 6074، 6075).
إن ابن الزبير رضي الله عنه لم يكتف بأن طلب الصلح والمصالحة والصلة، عندما أبت أم المؤمنين رضي الله عنها، ثم تأول لنفسه العذر برغبتها عن ذلك وردها له بالامتناع، بل أخذ يبحث عن الطرق والأسباب التي تدحر كل أسباب القطيعة، وتلمس الحيل الطيبة التي توصله إلى إرضاء خالته.
وهنا لم تأخذه وتجتاله عوامل التكبر والأنفة، لأنها التقوى التي تشبعت بها نفسه، وارتوت بها أخلاقه من نهج المصطفى صلى الله عليه وسلم ، وبهذا ذبلت وتساقطت حظوظ النفس الأمارة بالسوء لترتقي النفس اللوامة التي تدفع بصاحبها إلى سُبُل الخير والفلاح.
كما أن في هذا الموقف الوفاء من أم المؤمنين رضي الله عنها بالقسم الذي أخذته على نفسها، ولكنها كما هو معهود منها الإذعان لأوامر الله تعالى ولسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ،فتقبل الموعظة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وتقدم الصفح وتمام الصلة التي يحبها الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم فتقدمها على اليمين التي تزول بالكفارة.
فتهشمت وتحطمت عند ابن عوف وعائشة رضي الله عنهما جميع حظوظ النفس والكبرياء لتعود مياه الصلة إلى مجاريها.