في موسم الحج التالي من العام الثالث عشر للبعثة النبوية المباركة تمت بيعة العقبة الثانية، والتي يرويها جابر رضي الله عنه بقوله ( مكث رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة عشر سنين يَتَّبَّعُ الناس في منازلهم بعكاظ ومَجَنَّة، وفي الموسم بمنى، يقول: “من يؤويني ؟ حتى أبلغ رسالة ربي، وله الجنة.” حتى إن الرجل ليخرج من اليمن أو من مضر ـ كذا قال ـ فيأتيه قومه، فيقولون: احذر غلام قريش، لا يفتنك. ويمشي بين رجالهم، وهم يُشيرون إليه بالأصابع، حتى بعثنا الله له من يثرب، فآويناه وصدقناه، فيخرج الرجل منا، فيؤمن به، ويُقرئه القرآن، فينقلب إلى أهله، فيسلمون بإسلامه، حتى لم يبق دار من دور الأنصار إلا وفيها رهط من المسلمين؛ يُظهرون الإسلام. ثم ائتمروا جميعاً، فقلنا: حتى متى نترك رسول الله صلى الله عليه وسلم يُطرَد في جبال مكة ويُخَافُ ؟ فرحل إليه منا سبعون رجلاً، حتى قَدِموا عليه في الموسم، فواعدناه شِعْبَ العقبة، فاجتمعنا عنده من رجل ورجلين، حتى توافينا، فقلنا: يا رسول الله، علامَ نُبايعك ؟ قال: “تُبايُعوني على السمع والطاعة في النشاط والكسل، والنفقة في العسر واليسر، وعلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأن تقولوا في الله، لا تخافون في الله لومة لائم، وعلى أن تنصروني، فتمنعوني إذا قَدِمْتُ عليكم مِمَّا تمنعون منه أنفسكم وأزواجكم وأبناءكم، ولكم الجنة”.
قال: فقمنا إليه فبايعناه، وأخذ بيده أسعد بن زُرارة، وهو من أصغرهم، فقال : رويداً يا أهل يثرب، فإنا لم نضرب أكباد الإبل إلا ونحن نعلمُ أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم وإن إخراجه اليوم مُفَارَقَةُ العرب كافة،وقتل خياركم، وأن تَعَضَّكُم السيوف، فإما أنتم قوم تصبرون على ذلك، وأجركم على الله، وإما أنتم قوم تخافون من أنفسكم جُبَيْنَةً فبينوا ذلك؛ فهو أعذر لكم عند الله، قالوا: أمط عنا يا أسعد، فوالله لا ندع هذه البيعة أبداً، ولا نَسْلِيها أبداً. قال: فقمنا إليه فبايعناه، فأخذ علينا وشرط، ويُعطينا على ذلك الجنة.)
فمن هذه الرواية الجامعة والموضحة لتفاصيل بيعة العقبة الثانية؛ يبين جابر رضي الله عنه استمرارية الرسول صلى الله عليه وسلم ودَأَبَه في تبليغ الرسالة في المواسم، ويقول: من يُؤويني ؟ من ينصُرُني ؟ وفي هذا بيان أن لصدود قومه، ومقدار الأذى الذي لحق به صلى الله عليه وسلم قد بلغ مبلغاً عظيماً وخطيراً؛ وإلا كيف يبحث صلى الله عليه وسلم عن مخرج ليخرج من مكة التي ولد وترعرع فيها، ولكنه الصبر الدَّؤوب منه صلى الله عليه وسلم وتحمل جميع مشاق الرسالة بكل أمانة وصدق، الأمر الذي يؤكد للأمة أن ما يجب عليها هو حال ما كان عليه صلى الله عليه وسلم إذ لم يضعف أو يتهاون في أمر الرسالة أمام تكالب الأعداء والضيم الذي واجهه من قومه، ولعمري إن أذى قوم الإنسان أشد على النفس من أذى الأعداء.
وكل عمل خير صالح وناجح ومتميز يواجه الصد من الحاقدين والحاسدين، فقد كانوا أعداء الرسالة السماوية يمشون خلفه ويحذرون الناس منه، حتى خافت القبائل من إيواء الرسول صلى الله عليه وسلم وحتى يخرج الرجل فيأتيه قومه فيقولون له: احذر غلام قريش. إنه البث الإعلامي الذي أوصلوه إلى كل من يتصل بمكة، أو يصل إليه أخبارها. وإنها لسنة من سنن الأولين؛ تتجدد في كل وقت وحين، وفي كل المستويات، تضعف تارة وتعلوا تارة أخرى، ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلمنا ماذا يجب أن نكون عليه أمام البث الكاذب والحاقد؛ وهو عدم الاكتراث والتأثر والاستسلام والنكوص، بل يجب المواجهة بالصبر وعدم الالتفات إليها، وعدم استخدام المواجهة في حالة الضعف، مع الاستمرار في العمل الدعوي والبناء، فإن النصر من الله تعالى. فهاهم الأنصار يُقْبِلُون على الإسلام قبولاً سريعاً، والرسول صلى الله عليه وسلم يبعد عنهم المسافات الطِّوَال، حيث يقول جابر رضي الله عنه : فيخرج الرجل منا فيؤمن به، ويُقرئه القرآن، فينقلب إلى أهله فيسلمون بإسلامه، حتى لم يبق دار من دور الأنصار إلا وفيها رهط من المسلمين، يُظهرون الإسلام. بينما حال كفار قريش الاستعداء ورسول الله صلى الله عليه وسلم بينهم منذراً ومبشراً.
ثم يأتي دور الأنصار فيجتمعون بينهم جميعاً، وهنا درس تربوي عظيم، فلم يجتمع الكبراء منهم أو بعضهم، وإنما اجتمعوا جميعاً لأن الأمر لا يخص زيد دون عمرو، أو عمرو دون زيد، كما أن في ذلك صرفاً وإبعاداً للحقد والضغائن، كما أن فيه اعترافاً بحقوق الآخرين وعدم تجاهلها، وهو ما يحتاج إليه العمل الجماعي اليوم، سواء كان في أمور الدعوة، أو في ميدان الإدارة، أو الأسرة، بل وفي كل أمر يتطلب رأي المجموعة، وعدم الاستئثار بالرأي دون مشاركة البقية، أو تهميش دور البعض لأي سبب كان.
وبعد مناقشة الموضوع مناقشة ممتلئة بالحيثيات الدينية، وما يجب عليهم إزاء نُصرة رسول الله صلى الله عليه وسلم يتم اتخاذ القرار الجماعي، فيرحل إليه سبعون رجلاً، واتخذوا سبيل الحيطة والحذر في الوصول إليه صلى الله عليه وسلم حتى لا يراهم أحد، فكان يخرج الرجل والرجلان حتى توافوا عنده صلى الله عليه وسلم وإنها الحنكة والحكمة التي ترى أهميتها وإلزاميتها لينجح الأمر.