في الموسم التالي من العام الثاني عشر للبعثة جاء اثنا عشر رجلاً من الأوس والخزرج، يقول عبادة بن الصامت رضي الله عنه (كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في مجلس. فقال: تبايعوني على أن لا تُشركوا بالله شيئاً، ولا تزنوا، ولا تسرقوا، ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق، فمن وفى منكم فأجره على الله، ومن أصاب شيئاً من ذلك فعوقب به، فهو كفارة له، ومن أصاب شيئاً من ذلك فستره الله عليه، فأمره إلى الله، إن شاء عفا عنه وإن شاء عذبه).
وفي رواية (أخذ علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم كما أخذ على النساء أن لا نشرك بالله شيئا….).
فلقد تضمنت هذه البيعة أوائل مبادئ الإسلام وهديه وأخلاقه التي تتوافق مع الفطرة السليمة، وتكفل لأصحابها قدراً كبيراً من حفظ الحقوق، وهي تلك المبادئ التي يجب أن تتأكد في نفوس أمة التوحيد. كما أن هذه المبادئ تشكل التدرج الدعوي للمنهج الإسلامي الذي ينـزل على الرسول صلى الله عليه وسلم شيئاً فشيئاً بما يتناسب مع حال الأمة، الأمر الذي يجب أن يراعيه المسلم في دعوته وتربيته، وفي منهج حياته كلها، وفي تعامله مع حاجاته ومع الآخرين .
وأول هذه الأسس: توحيد الله تعالى وعدم الإشراك به، وهو الأمر الرئيس الذي جاء به الأنبياء عليهم السلام، وهو رأس الإسلام، والذي لا يُقبل عمل مهما كان صلاحه من غير تحقيقه. ثم صيانة الفروج من الزنا وما يترتب على هذا الفعل الشنيع من المفاسد الاجتماعية والصحية والنفسية، إضافة إلى أنه من أشنع الرذائل السلوكية التي حرمها الله تعالى. ثم التوجيه إلى عدم الإسراف والتبذير الذي يؤدي إلى ضياع الأموال، ويشيع التباهي والتنافس البغيض بين أفراد المجتمع. ثم تلا ذلك الأمر الذي يحفظ الدماء من السفك بغير حق، والذي بحفظه تستقيم أمور الناس. فمن وفَّى بهذه فأجره من رب البرية سبحانه وتعالى، ومن عوقب على ما اقـترف فهو كفارة له، ومن ستره الله فأمره إلى الله إن شاء غفر له وإن شاء عذبه. فلقد ربط رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه المبادئ بالثواب والعقاب، ولا يُشترط أن يطلع عليه الناس، بل إن ستره الله عنه، فلا يعني أنه لم يره، بل إن شاء عاقبه وإن شاء غفر له.
إنه المنهج الذي يربط العمل بالثواب والعقاب العاجل أو الآجل، مع البيان بأن العقاب الآجل تحت مشيئة الله، يتيح الأمل أمام المذنب ليتوب ويؤب إلى ربه سبحانه وتعالى. كما أن هذا التوجيه النبوي يربي في المسلم تقوى لله في السر والعلن.
ولما انصرف عنه القوم بعث معهم رسول الله صلى الله عليه وسلم مصعب بن عمير، وأَمَرَه أن يُقرئهم القرآن، ويعلمهم الإسلام، ويفقهم في الدين، فكان يسمى المقرئ بالمدينة: مصعب. وكان منـزله على أسعد بن زرارة، وكان يُصلي بهم، وذلك أن الأوس والخزرج كره بعضهم أن يؤمّه بعض.
إن في إرسال مصعب بن عمير رضي الله عنه إلى المدينة ليعلم الناس دلالة واضحة على أن هذا الدين هو دين علم، وتَثَبُّتْ، وعبادة لله تعالى على علم ومعرفة. وليس الهدف الدخول في الإسلام بالانتماء فقط، ولو كان كذلك لكفى انتماؤهم إلى الإسلام. كما أن الله سبحانه وتعالى نشر بهذا الدين العلم وأظهره في جميع مجالاته، وفي هذا أهمية تعليم الجاهلين بدينهم، وأهمية الرحلة في الدعوة لإظهار دين الله تعالى كما يُحب الله تعالى ويرضى، وأن تعليم القرآن من أهم ما يجب أن تهتم به المدارس والجامعات في جميع ربوع العالم الإسلامي، وأماكن المسلمين وتجمعاتهم في العالم، وأن تُسْتَخْدَم كل وسيلة مجدية نافعة؛ تحقق الهدف وتَبْلُغ به المقصد، إضافة إلى تعاليم الإسلام التي يجب أن لا تُقصر على المتخصصين في العلوم الشرعية، خاصة ما لا يسع المسلم جهله من الدين.
وينبغي أن لا يقتصر التعليم على مبادئ الدين الإسلامي فقط؛ بل لابد من التفقه في الدين، لأنه صلى الله عليه وسلم قد أمر مصعب بأن يعلمهم الإسلام ويفقههم في الدين.
ويستفاد من ذلك أيضاً: أهمية إسدال اللقب العلمي على أهل العلم، وعدم مخاطبتهم بما يستوون فيه مع غيرهم من الألقاب، حيث لُقِّب مصعب بالمقرئ.
وفيه نزول القادم على المضيف، وكرم الأنصار بأن نزل مصعب على أسعد بن زرارة، كما أن التخلي عن ما ألفه الإنسان لا يحصل بسرعة عاجلة، فلقد كره أن يؤم بعضهم بعضا بحكم ما كانوا عليه في جاهليتهم، ولكن بعد أن ترسخ الإسلام في قلوبهم، أصبح الإخاء بينهم علامة، والحب في الله سمة من سماتهم رضي الله تعالى عنهم أجمعين.
ويستفاد من ذلك أهمية أن يراعي الوالي أو الحاكم أو الإداري الاعتبارات التي تكون في نفوس الناس حتى يُجَلِّيها عنهم بمنهج الإسلام وهديه.