ثم يأتي معرفة بنود المبايعة من رسول الله صلى الله عليه وسلم فيبين لهم أنها:
ـ السمع والطاعة في المنشط والمكره.
وهو الأمر الذي لا تستقيم أمور الدعوة إلا باتباع الداعي إلى الخير، في جميع أحوال النفس البشرية، فيما تنشط إليه أو تكسل عنه، وفي هذا بيان على أن لا يقتصر إعداد النفس للخير حال المنشط فقط، بل يجب أن يتجاوزه إلى حالة الدعة والكسل، ويستفاد من هذا البند: أهمية أن يعد المسلم نفسه أثناء ممارسة أعماله الصالحة نحو الاستمرارية، وعدم الركون للكسل والتوقف، فالمسلم لا يعرف الكسل طريقه إليه، بل هو في نشاط وحركة دؤوبة؛ أثناء طلبه العلم، وأثناء ممارسته لتجارته، وإدارته، ومهنته، وفي كل أنشطة الحياة، وفي هذا البند أهمية الطاعة لولي الأمر ما لم يكن فيه معصية لله تعالى، فإنه من أهم أسس النجاح، وسواء كان في ولاية الأمر الحاكمة، أو في ولاية الأمر المهنية، أي في دائرة العمل.
ـ والنفقة في العسر واليسر.
ويؤكد هذا البند أهمية النفقة في جميع الأحوال، إذ لا تستقيم الأمور الدَّعوية إذا اقتصر الإنفاق على حالة اليسر. وهكذا يكون المسلم في إنفاقه على دروب الخير ومصالح المسلمين في عُسره ويُسره، فهو جواد في كل أحواله، ويزداد عطاءً في حالة السعة واليسر.
ـ وعلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
ولا تستقيم أمور المسلمين إلا بتعاهد بعضهم بعضاً بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. وفي هذا تأكيد على أن هذه الشعيرة من أهم الشعائر الدينية؛ حيث اهتم بها رسول الله صلى الله عليه وسلم في أوائل أمور الدعوة.
ـ وأن تقولوا في الله لا تخافون لومة لائم.
ويؤكد هذا البند حقيقة الإيمان، إذ لا يحقق هذا المطلب إلا من قوي إيمانه بخالقه سبحانه وتعالى، وأما ضعفاء الإيمان فإن المجاملة والمداهنة رمز لمعاملاتهم في جميع شؤون الحياة: في الاقتصاد والإدارة والدعوة والتعليم، وفي غير ذلك من ميادين أعمال الحياة. لأن ضعيف الإيمان يُقَدِّر الأمور بميزان الأسباب في معزل عن خالق الأسباب ومدبر الأحوال سبحانه وتعالى، وبالتالي يجري ويدور مع الأسباب الموهومة، فيهاب لوم اللائمين وعتاب العاتبين بغير حق، وبالتالي يداهن ويرائي ويجامل على حساب الحق والحقائق.
وبهذا البند يتقوى المسلمون؛ إذ أنه لا مجال للمداهنة المبنية على مخافة لوم اللائمين، بل الحق هو البند الأعلى والكفاح له درع وسياج.
ـ وعلى أن تنصروني، فتمنعوني إذا قَدِمْتُ عليكم مِمَّا تمنعون منه أنفسكم وأزواجكم وأبناءكم.
ويوضح هذا البند خُلُق البيعة الذي ينفي سلوك الخذلان، لمن قَدِمَ عليهم، وأن يكون الحفاظ عليه يوازي حفظ الذات والأهل. وهكذا يجب أن يكون خُلُق المسلم مع إخوانه ومع من يعاهده بالحماية والذود عنه. ولذلك وجد المعاهَدُون الأمن والأمان من المسلمين.
وإذا طبق الرجل ذلك في أهله وإدارته ومهنته وسوقه وتجارته فإن محل الثقة تنعقد عليه ممن يُحيطون به، فلا يخافون منه خيانة ولا خذلان في الحق وإحقاقه.
ـ ولكم الجنة.
وهو الجزاء والمكافأة من الله تعالى، الذي يطمع إليه كل عاقل من الناس.
وهذا يؤكد أهمية المكافأة، وحجم المكافأة الذي يجب أن يتوازى مع الجهد والعمل، حتى يكون له معنى وأثر، فإن هذه المطالب أعمال عزيزة كريمة، ولها تبعية عظيمة الأثر، أكدها أسعد بن زرارة، بقوله: وإن إخراجه اليوم مُفَارَقَةُ العرب كافة،وقتل خياركم، وأن تَعَضَّكُم السيوف، فكانت المكافأة أعظم من ذلك بكثير، إنها الجنة التي أعدها الله تعالى لمن تبع دينه، فلا يشقى صاحبها أبداً ولا يندم.
إن هذه البنود لتؤكد وضوح الهدف من الرسالة السماوية، إذ أنها تنصب على نصرة دين الله تعالى، وأن مناصرة الرسول صلى الله عليه وسلم هي لحفظ هذا الدين ونشره، وليس فيها استعداء القبائل الأخرى بالهجوم؛ واستخدام القوة، بل إنما هي نصرته صلى الله عليه وسلم ومنع الأذى عنه، وليس فيها ما يُشير إلى الغبن أو إلى النوايا السيئة، وهذا بلا شك يؤكد سمو الرسالة في أهدافها وأخلاقها وأسلوب تعاملها، وأنها من عند الله تبارك وتعالى.
ومن فوائد هذا الحدث الإسلامي العظيم، أن تقدم أسعد بن زرارة فتكلم، وهو من صغار القوم سناً، مما يبين أن صغر السن لا يمنع صاحبه من التحدث أمام من هم أكبر منه إذا كان أهلاً للكلام. وما أظن أن أسعد بن زرارة قد تقدم لو لم يكن ذلك ديدن القوم التربوي لأبنائهم، بأن يعطوهم الفرصة للتحدث أمام الآخرين.
فلقد نبههم إلى أمر مهم، وكأني به رضي الله عنه أراد أن يستوثق للرسول صلى الله عليه وسلم إذا ما ظهرت الأمور بشكل عصيب، وأن يلزموا بنود المعاهدة. وإنه لنصح في استوثاق حكيم. فأكد له قومُه في حزم وثقة أنهم ماضون في نصرة رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا له: أمط عنا يا أسعد، فوالله لا ندع هذه البيعة أبداً، ولا نَسْلِيها أبداً.
وبهذه البيعة المباركة من الأنصار المباركين بدأ التخطيط النبوي للهجرة إلى المدينة، التي ستكون مأرز الإيمان. فأصبحت كذلك. فلله در أهل بيعة العقبة من رجال أوفياء صدقوا ما عاهدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عليه.