وَلَئِن كان الغالب في الناس حياة الأبوة والأمومة تحف بهم وترعاهم، فإن محمداً صلى الله عليه وسلم لم يكن من أولئك، وإنما ولد يتيماً، قد توفي والده وهو جنين في بطن أمه.
فَالْيُتْمُ ليس مثلبة ولا مثلمة في حياة الأفراد من اليتامى، بل قد يُعدُّ ذلك منقبة في حق من استقام في طريق الهداية، وحطَّ رحاله في دروب الخير والمعالي، يشق طريقه على سبيل نبيه الذي ولد يتيماً، وأوصى برعاية اليتامى قائلاً عليه الصلاة والسلام ( أنا وكافل اليتيم في الجنة كهاتين ، وأشار بأصبعيه يعني السبابة والوسطى)
وفي نشأته صلى الله عليه وسلم يتيماً دلالات تربوية عظيمة من أن الْيُتْمَ لا يرسم على أصحابه ضعفاً نفسياً أو إسقاطاً اجتماعيا، بل كان عليه الصلاة والسلام في صباه قوي النفس والعزيمة محبوباً بين من يحيطون به.
وإن الله تعالى هو الرحيم بعباده؛ يعنى بهم ويحفظهم ويرعاهم، و يهيئ لهم من يقوم بإعالتهم ورعايتهم، فقد قال تعالى عن نبيه محمد صلى الله عليه وسلم (ألم يجدك يتيما فأوى)
وذلك أن أباه توفي وهو حمل في بطن أمه، وقيل بعد أن ولد عليه السلام، ثم توفيت أمه آمنة بنت وهب وله من العمر ست سنين، ثم كان في كفالة جده عبد المطلب إلى أن توفي وله من العمر ثمان سنين، ثم كفله عمه أبو طالب ثم لم يزل يحوطه وينصره ويرفع من قدره ويوقره ويكف عنه أذى قومه بعد أن ابتعثه الله على رأس أربعين سنة من عمره.
فكما هيأ الله لرسوله صلى الله عليه وسلم الرعاية والإيواء من جوانبها التربوية والنفسية والمعيشية، فقد جعل ذلك واجباً اجتماعياً تقوم به الأمة في حق الأيتام ليعيشوا كما يعيش غيرهم في رعاية وحفاوة وعناية، فلا تتأثر قواهم النفسية بما حصل لهم من وفاة الوالد أو الوالدة أو كليهما، بل ربما غرس فيهم ذلك الْيُتْمُ قوة نفسية قد تفوق غيرهم، لما يشعرون به من اعتمادهم بعد الله تعالى على أنفسهم في شق طريق الحياة، وليس على أكتاف الآباء وأحضان الأمهات.
بل من رعاية الله تعالى لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم أن قذف في قلب جده عبد المطلب محبة لهذا الابن الكريم؛ مشمولة بالرعاية والعناية الفائقة التي تفوق رعاية الأب المباشر لابنه، فقد كان جده عبد المطلب يقربه ويدنيه منه ولا يدع أحداً يدخل عليه وهو نائم، وكان له مجلس لا يجلس عليه غيره، وكان له فراش في ظل الكعبة يجلس حوله بنوه ويجلس النبي صلى الله عليه وسلم عليه مع جدِّه.
وكان عمه أبو طالب لا ينام إلا ومحمد إلى جنبه، ولا يخرج إلا وهو معه، ويخصه بالطعام، ولا يأكل إلا عندما يحضر محمد، وظل يحوطه بعنايته إلى أن توفي قبل الهجرة بنحو ثلاث سنين.
فَمَنْ الذي سخر هذه القلوب لتعطف وترعى هذا النبي اليتيم ؟
فكيف بمن يفكر في أبنائه، ويحمل همهم لو توفَّاه الله تعالى عنهم وهم صغار، إن هذه المواقف تعلِّم الإنسان المسلم وتغرس فيه عقيدة التوكل على الله تعالى، وأنه هو المدبِّر للأمور ولعواقبها، فلا يلزمه إلا أن يجهد ويجتهد في سعة وراحة بال؛ دون توجع وتخوف عن مصير الأبناء لو قدَّر الله تعالى عليه الوفاة وهم صغار، ألم يحبس الله تعالى ذلك الكنـز المذكور في سورة الكهف تحت جدار الأيتام، وهيأ لهم من يقوم ببناء ذلك الجدار حتى لا يُكشف خَبَرُ ذلك الكنـز، ويبقى مدفوناً تحفه الرعاية الإلهية حتى يتهيأ الأبناء رشداً وسناً وقوة ليأخذوا كنـزهم، قال تعالى (فانطلقا حتى إذا أتيا أهل قرية استطعما أهلها فأبوا أن يضيفوهما، فوجدا فيها جدار يريد أن ينقض فأقامه، قال لو شئت لاتخذت عليه أجرا) وقال تعالى في علة بناء ذلك الجدار (وأما الجدار فكان لغلامين يتيمين في المدينة، وكان تحتَهُ كنـزٌ لهما، وكان أبوهما صالحا، فأراد ربك أن يبلغا أشُدَّهُمَا ويستخرجا كنـزهما رحمة من ربك)
وهنا تعطينا الآية الكريمة دلالة عظيمة (وكان أبوهما صالحا، فأراد ربك أن يبلغا أشُدَّهُمَا ويستخرجا كنـزهما رحمة من ربك) فالمسلم إذا أصلح من حاله في طاعة ربه عز وجل؛ تكفل الله تعالى بأموره وما يخصه من أمور متعلقة بمن يحبهم كالأبناء، وما خبر عمر بن عبد العزيز مع أبنائه عن هذا الموقف ببعيد، فلم يترك لأبنائه من حطام الدنيا شيئاً، لا أموالاً ولا كنوزاً؛ وهو الخليفة الزاهد، ولكنه ترك لهم تربية صالحة ، فأغدق الله تعالى على بنيه من الخير بعد وفاته، حتى أن أحدهم جهز جزأ من أحد جيوش المسلمين ؛ لكثرة ماله الذي لم يرثه عن والده، ولكن كان أبوهم رجلاً صالحاً.
والْيُتْمُ في باب حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم عظمة ودروس,بأن لا يركن اليتيم لحالة البؤس والهزيمة النفسية,والعطش العاطفي؛ وشظف العيش إن أصابه ذلك, بل يأخذ الأمر بعزيمة المؤمن الواثق بربه عز وجل, فيأمل فيه الخير والرجاء فهو المرجو سبحانه وتعالى,وله أسوة في العلماء الكبار الذين عاشوا يتامى فقادوا الناس بعلمهم وحكمتهم، ومن أولئك الإمام الشافعي الذي عاش يتيماً في حجر أمه, فأصبح العالم الذي تُضرب له أكباد الإبل, والذي بلغ شأواً بعيداً في الفصاحة والبلاغة؛ وجمال الذكر وطوله, حتى أصبح نهجه العلمي مذهباً فقهياً لامعا.