التصدي للمسلمين في موطن هجرتهم:
وعندما نزل المسلمون بأرض الحبشة وجدوا فيها ما قاله صلى الله عليه وسلم إن فيها ملكاً لا يُظلم عنده أحد، تقول زوج النبي صلى الله عليه وسلم أم سلمة رضي الله تعالى عنها: لما نزلنا أرض الحبشة جاورنا بها خير جار النجاشي، أَمّنَّا على ديننا، وعبدْنا الله تعالى لا نُؤذى ولا نسمع شيئاً نكرهه، فلما بلغ ذلك قريشاً ائتمروا بينهم أن يبعثوا إلى النجاشي فينا رجلين منهم جلدين، وأن يهدوا للنجاشي هدايا مما يُستطرف من متاع مكة، وكان من أعجب ما يأتيهم منها الآدم، فجمعوا له آدماً كثيراً، ولم يتركوا من بطارقته بطريقاً إلا أهدوا له هدية ثم بعثوا بذلك عبدالله بن أبي ربيعة، وعمرو بن العاص……. فلما دخلوا على النجاشي قالا له: إنه قد ضوى إلى بلدك غلمان سفهاء، فارقوا دين قومهم، ولم يدخلوا في دينك، وجاؤا بدين ابتدعوه، لا نعرفه نحن ولا أنت….. ثم أرسل إلى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فدعاهم، فلما جاءهم رسوله اجتمعوا، ثم قال بعضهم لبعض: ما تقولون للرجل إذا جئتموه ؟ قالوا: نقول والله ما عَلِمْنَا، وما أمَرَنَا به نبينا صلى الله عليه وسلم كائناً في ذلك ما هو كائن …. فكان الذي كلمه جعفر بن أبي طالب: فقال له: أيها الملك، كنا قوماً أهل جاهلية، نعبد الأصنام ونأكل الميتة، ونأتي الفواحش، ونقطع الأرحام، ونُسئ الجوار، ويأكل القوىُ منا الضعيف، فكنا على ذلك حتى بعث الله إلينا رسولاً منا، نعرف نسبه وصدقه وأمانته وعفافه، فدعانا إلى الله لنوحده ونعبده، ونخلع ما كنا نعبد نحن وأباؤنا من دونه من الحجارة والأوثان، وأمرنا بصدق الحديث، وأداء الأمانة، وصلة الرحم، وحسن الجوار، والكف عن المحارم والدماء، ونهانا عن الفواحش وقول الزور، وأكل مال اليتيم، وقذف المحصنات، وأمرنا أن نعبد الله وحده، لا نشرك به شيئا، وأمرنا بالصلاة والزكاة والصيام …..فعدا علينا قومنا فعذبونا وفتنونا عن ديننا…. فلما قهرونا وظلمونا وضيقوا علينا، وحالوا بيننا وبين ديننا؛ خرجنا إلى بلادك، واخترناك على من سواك، ورغبنا في جوارك، ورجونا أن لا نُظلم عندك أيها الملك. قالت: فقال له النجاشي: هل معك مما جاء به عن الله من شيء ؟ قالت: قال له جعفر: نعم، فقال له النجاشي: فاقرأ علىَّ، قالت: فقرأ عليه صدراً من ( كهيعص ) قالت: فبكى والله النجاشي، حتى أخضلت لحيته، وبكت أساقفته حتى أخضلوا مصاحفهم، حين سمعوا ما تلا عليهم، ثم قال لهم النجاشي: إن هذا والذي جاء به عيسى ليخرج من مشكاة واحدة، انطلقا، فوالله لا أُسلمهم إليكما؛ ولا يُكادون.
إن هذا الموقف والحوار والقرار من الملك النجاشي يعطينا دروساً تربوية واجتماعية عظيمة، فلقد استخدم المشركون وسيلة الهدية التي يطمعون من خلالها الولوج إلى قلب النجاشي وأتباعه، كما استخدموا قوة الكلمة والحجة واللسان والدهاء، من خلال إرسال رجلين لهما في تلك الصفات شأن عظيم، واستثاروا القلوب بالحجة التي تُظهر الكراهية في قلب النجاشي؛ بأن المهاجرين ليسوا على دين النصرانية.
إنه أسلوب حواري بالغ القوة، ولكنهم وافقوا مَلِكَاً حكيماً يدفع بحبه للعدل المكر والدهاء والهوى. فلم يتأثر بذلك كما تأثر بطارقته، بل استمع إلى المدَّعى عليهم، وسمع حجتهم ومحجتهم، ثم اتخذ القرار الذي يتوافق مع العدل والإنصاف لا مع الهدايا وثوران العواطف والأهواء.
إن هذا الأسلوب النجاشي ينم عن إدارة وسياسة حكيمة فذة، نتيجة تربية سابقة؛ وتوفيق من الله تعالى قبل ذلك، فتكونت هذه الشخصية التي تنظر إلى الأمور بعين العدل والإنصاف، مع عدم الاكتراث برأي البطانة إذا كانت مخالفة للحق والصواب.
إن الإدارة التي تُدير أمور الحياة الاجتماعية على هذا النسق لتربي فيمن يتعامل معها الحكمة وفعل الصواب، مع البحث عن الحقيقة والسير معها وفي محورها، وإنها لتربي فيمن يتأملها أهمية النظرة الشمولية لعناصر القضية الواحدة؛ دون الاكتراث بالزاوية الأُحادية التي قد تتقدم على الزوايا الأخرى.
وإن القائد التربوي والإداري الناجح أياً كان موقعه؛ عندما يدرك هذا المحور الإداري يحقق نجاحا إدارياً بالغاً، ويغرس في من يعملون معه تلك الخصال الإدارية المهمة.
والأعجب من ذلك تلك التربية النبوية التي جعلت من أولئك الصحب الكرام ـ رضي الله تعالى عنهم ـ وهم في أحلك المواقف وأصعبها، يتخذون قراراً: هو قول الحقيقة على ما كان من رسول الله صلى الله عليه وسلم مهما كانت النتائج. فهم بين أن يُرَدُّوا إلى قومهم فينتقموا منهم شر انتقام، وبين أن يقولوا الصدق والصواب؛ كما علمهم نبيهم صلى الله عليه وسلم ولو حصل ما تكرهه النفوس. فكل أحد من الناس عندما يتعرض لفتنة تصيبه غالباً ما يفكر في المخارج والْحِيَل التي تُخرجه مما هو فيه، ولكن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يطل بهم المقام التفكيري والتأملي؛ بحثاً عن حيلة الخلاص من دهاة قريش، فقالوا: نقول والله ما عَلِمْنَا، وما أمَرَنَا به نبينا صلى الله عليه وسلم كائناً في ذلك ما هو كائن.
إن هذا القرار المصيري لا يمكن أن يصدر إلا من مؤمنين، قد تربوا تربية إسلامية عالية وغالية، ومن سيد المربين ومعلمهم وقدوتهم، حيث تربوا على الصدق والاعتماد على الله تعالى وليس على ظاهر الأسباب والحيل، الأمر الذي دفعهم إلى قول الصدق والحق.
وإن هذا الثبات ليؤكد حقيقة التربية الإسلامية؛ ونتائجها اليانعة إذا ما اهتم بها الحاكم والمجتمع ومؤسساته كاملة، حتى تُجْنَى ثمارها التي يزدهر بها في جميع شؤونه ومجالاته، فلا يجد إلا الصدق والأمانة والإخلاص التي ينموا بها الاقتصاد، وتزدان بها السياسة، ويندحر بها الانحراف، وتسود بها الفضيلة،وتنكشف بها الغمة، ويحل بها الرخاء.
وإن هذا الموقف ليؤكد أخلاق الإسلام النبيلة، الذي ينبذ الكذب والزيف والخداع، ويجعل مسلكه في الخروج من المآزق والأزمات الصدق مع الله تبارك وتعالى، وبالتالي لا تخاف المجتمعات ولا الحكومات غير الإسلامية عندما تتعامل مع المسلمين؛ إذا ما ظهروا بأخلاق الإسلام وهديه، بل إنهم ليدعونهم بأخلاق الإسلام إلى هدي الإسلام؛ وبروح الإسلام إلى دين الإسلام.
وأما إذا ظهر المسلمون بأضداد أخلاق الإسلام وهديه، فإنهم يَشُدُّون عضد أعداء الإسلام ضد الإسلام، ويُكثرون عددهم، ويوسعون مساحتهم، ويستجلبون عداوتهم لدين الله تعالى، ويسهمون في حجب الإسلام؛ وإقصاء الدعوة ودحرها ، والله تبارك وتعالى أراد بهذا الدين إخراج الناس من الظلمات إلى النور، وليس إبقاءهم في ظلمات الكفر والضلال. كما أن الإسلام ينتشر بمبادئه وأخلاقه ونوره؛ لا بقوة السلاح والعتاد، وإن كانت مطلوبة أشد الطلب لحفظه وحفظ أتباعه، وليس من أجل إدخال الناس في رحابه. فالناس لا يدخلون في دين الله تعالى بالقوة والإجبار؛ بل بالرغبة والاختيار.
فلما كان الغد جاء عمرو إلى النجاشي؛ وقال له: إن هؤلاء يقولون في عيسى بن مريم قولاً عظيماً، فاستدعاهم النجاشي. وعندما جاؤوه سألهم عن قولهم في المسيح. فقال جعفر: نقول فيه الذي جاءنا به نبينا، هو عبدالله ورسوله، وروحه؛ وكلمته ألقاها إلى مريم العذراء البتول. فضرب النجاشي بيده إلى الأرض؛ فأخذ منها عوداً، ثم قال والله ما عدا عيسى ما قلت قدر هذا العود. فتناخرت بطارقته، فلم ينظر إلى ذلك، فقال: اذهبوا فأنتم شيوم بأرضي، واشيوم: بمعنى :الآمنون.
ومما سبق يمكن استخلاص قواعد العملية التربوية والتنشئة الاجتماعية، وهي:
ـ غرس لزوم الصدق في المنشط والمكره.
ـ التنشئة على عدم تقديم الرأي على توجيهاته صلى الله عليه وسلم.
ـ لزوم القائد الحيطة والحذر في اتخاذ القرار.
ـ عدم الاغترار بسبق الخبر،.وتقديم قاعدة التثبت في الخبر.
ـ عدم الاكتراث برأي المجموعة حال مخالفتها قاعدة شرعية أو أصولية.
ـ التربية الجادة تُنْجِب شخصيات جادة.
اسم الكاتب: أ.د. خالد بن حامد الحازمي