لقد تتابع تصدي المشركين لرسالة رب العالمين التي جاء بها رسوله الأمين صلى الله عليه وسلم بأساليب مختلفة، ظناً منهم أنها تجدي في التصدي لرسالة الله تعالى إلى خلقه، وبالرغم من أنها أخذت صوراً متعددة من الأذى النفسي والمعنوي والمادي إلا أنها أيضاً سلكت مسلك المفاوضات الممتلئ بالتصدي السافر، الذي لا يعرف إلا نظرة إحقاق الباطل، وإبطال الحق، فأخذت الأساليب التالية:
1ـ التفاوض مع عمه أبي طالب:
فعن عقيل بن أبي طالب قال: لقد جاءت قريش إلى أبي طالب، فقالوا: إن ابن أخيك يؤذينا في نادينا، وفي مجلسنا، فانهه عن أذانا، فقال: يا عقيل ائت محمداً، قال: فانطلقت إليه، فأخرجته من جلس، قال طلحة: نبتة صغيرة، فجاء في الظهر، من شدة الحر، فجعل يطلب الفيء، يمشي فيه من شدة الرمضاء، فأتيناهم، فقال أبو طالب: إن بني عمك زعموا أنك تؤذيهم في ناديهم وفي مجلسهم، فانته عن ذلك، فحلَّق رسول الله صلى الله عليه وسلم ببصره إلى السماء، فقال: ما ترون هذه الشمس ؟ قالوا: نعم، قال: ما أنا بأقدر على أن أدع ذلك منكم على أن تشعلوا منها شعلة، ، فقال أبو طالب: إن بني عمك زعموا أنك تؤذيهم في ناديهم وفي مجلسهم، فانته عن ذلك، فحلَّق رسول الله صلى الله عليه وسلم ببصره إلى السماء، فقال: ما ترون هذه الشمس ؟ قالوا: نعم، قال: ما أنا بأقدر على أن أدع ذلك منكم على أن تشعلوا منها شعلة، فقال أبو طالب: ما كَذَبَنَا ابن أخي قط، فارجعوا.)
لقد اعتبر كفار قريش دعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم أذى يصل إلى ناديهم ومجلسهم، فَقَلَبوا الحق باطلاً، والباطل حقاً، فلم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يُكْرِه الناس على أن يكونوا مؤمنين، بل كان يُعلن التوحيد ونبذ الشرك لمن شاء أن يستقيم؛ ويأخذ بهذه العروة الناجية. فكان هذا التفاوض مع عمه أبي طالب الذي جعله الله سنداً له وقوة بعد الله تبارك وتعالى. فلم يأخذ أبو طالب بكلام من جاءه من المشركين حتى سمع كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم وجوابه، وبالرغم من أنهم كُثُر، ولكنه لم ينظر لكثرتهم، وتظلمهم حتى سمع من ابن أخيه، فلما سمع منه العزم والتأكيد على هذا الأمر، وأنه ماض فيه ولا رجعة عنه، أعلن أبو طالب مؤكداً بما عُرف عن محمد صلى الله عليه وسلم من الصدق النافي للكذب، فكان مفهومه منطوقه، أن لا عُدُول عن ما جاء به صلى الله عليه وسلم..
إن هذه النظرة من عمه أبي طالب والمبنية على الدليل الراجح، بأن محمداً صلى الله عليه وسلم لم يُعرف عنه الكذب، لتؤكد الأهمية البالغة للسلوك السابق للداعية والمربي والمسؤول أياً كان موقعه، ليجد من يؤازره ويشد عضده لما عُرِف عنه من سيرته العطرة، ونزاهته واستقامته.
ولقد كان الحزم في الموقف من رسول الله صلى الله عليه وسلم بما لا يدع مجالاً للمساومة في الدين مهما كانت الظروف المواتية والمحدقة، وفي هذا درس عظيم بأنه يجب أن لا يتنازل المسلم عن دينه لأعداء الله تعالى، مهما كانت الأمور المحدقة بالإنسان، وأنه ليس في التنازل حكمة البتة، إذ لو كان فيها شيء من الحكمة لصنعه رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك الوقت العصيب الذي تمر به الأمة القليلة المستضعفة.
2ـ مفاوضات عتبة بن ربيعة:
لقد عَرَض عتبة بن ربيعة على قومه من كفار قريش أن يذهب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ويفاوضه في أمور؛ لعله يقبل شيئاً منها، فَلَقِيَتْ فكرته تأييداً فقالوا: قم إليه فكلمه، فقام إليه عتبة حتى جلس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا ابن أخي إنك منا حيث قد علمت من السِّطة في العشيرة، والمكان في النسب، وإنك قد أتيت قومك بأمر عظيم، فرَّقت به جماعتهم، وسَفَّهَتَ به أحلامهم، وَعِبْتَ به آلهتهم ودينهم، وكَفَّرْتَ به من مضى من أبائهم، فاسمع مني أعرض عليك أموراً تنظر فيها، لعلك تقبل منها بعضها. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : قل يا أبا الوليد، أسمع. قال: يا ابن أخي ! إن كنت إنما تريد بما جئت به من هذا لأمر مالاً، جمعنا لك من أموالنا حتى تكون أكثرنا مالاً، وإن كنت تريد شرفاً؛ سودناك علينا حتى لا نقطع أمراً دونك، وإن كنت تريد به ملكاً، ملكناك علينا، وإن كان هذا الذي يأتيك رئياً تراه لا تستطيع ردَّه عن نفسك، طلبنا لك الطب، وبذلنا فيه أموالنا حتى نبرئك منه، فإنه ربما غلب التابع على الرجل حتى يداوى منه، أو كما قال له. حتى إذا فرغ عتبة، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يسمع منه، قال: أقد فرغت يا أبا الوليد؟ قال: نعم. قال: فاسمع مني. قال: أفعل، فقال: (بسم الله الرحمن الرحيم حـم~ تنزيل من الرحمن الرحيم كتاب فصلت آيته قرآناً عربياً لقوم يعلمون بشيراً ونذيراً فَاَعْرَضَ أكثرهم فهم لا يسمعون وقالوا قلوبنا في أَكِنَّةٍ مما تدعونا إليه) ثم مضى رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها يقرؤها عليه، فلما سمعها منه عُتْبَة أنصت لها وألقى يديه خلف ظهره معتمداً عليها يسمع منه، ثم انتهى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى السجدة منها، فسجد، ثم قال: قد سمعت يا أبا الوليد ما سمعت وأنت وذاك. فقام عتبة إلى أصحابه، فقال بعضهم لبعض: نحلف بالله لقد جاءكم أبو الوليد بغير الوجه الذي ذهب به، فلما جلس إليهم قالوا: ما وراءك يا أبا الوليد ؟ قال: ورائي أني قد سمعت قولاً والله ما سمعت مثله قط، والله ما هو بالشعر ولا بالسحر ولا بالكهانة، يا معشر قريش أطيعوني واجعلوها بي، وخلُّوا بين هذا الرجل وبين ما هو فيه، فاعتزلوه، فوالله ليكوناً لقوله الذي سمعتُ منه نبأ عظيم، فإن تُصبه العرب فقد كفيتموه بغيركم، وإن يظهر على العرب فملكه ملككم، وعِزُّه عِزُّكم، وكنتم أسعد الناس به، قالوا: سحرك والله يا أبا الوليد بلسانه، قال هذا رأيي فيه، فاصنعوا ما بدا لكم.
لقد استخدم مشركوا قريش في هذه المفاوضات مغريات عِظَام، ينكسر أمامها ذووا المطالب الدنيوية، من أصحاب الهوى والماديات، والباحثون عن المكانة الاجتماعية على حساب القيم والمبادئ. ولكن نبوة رسول الله صلى الله عليه وسلم وصِدْقَه تُقدم لهم دروساً وعظات، بأن هذا الأمر أكبر من هذه العروض وهذه المغريات مجتمعة، إنها رسالة رب العالمين التي ينبغي أن يسلك منهجها كل مسلم على وجه البسيطة، بأن لا يقدم عَرَضَاً من أعراض الدنيا الزائلة على دينه، فيقبل الرشوة، والمحاباة للقريب على حساب العدل والأمانة، واختلاس الأموال العامة، واستثمار المناصب الإدارية والمكانة الاجتماعية لحفظ لذائذها ومفاتنها وبريقها على حساب الدين، وما تضمنه من وجوب العدل والأمانة والإخلاص وتقديم الأكفأ في الترقية وفي تولي المناصب. وكذلك أمانة المعلم في أداء دروسه ومهامه التربوية، وعدم تضييعها وتضييع أوقاته بما يحقق له المكاسب المادية على حساب ذلك الدور العلمي والتربوي الذي يضطلع به في أمته المسلمة. وهو أقرب فيما يقوم به من عمل تعليمي تربوي بعمل الأنبياء والمرسلين.
ولقد استخدم عتبة بن ربيعة مقدمة جذابة في عرضه على رسول الله صلى الله عليه وسلم مبيناً منـزلة الرسول صلى الله عليه وسلم عند قومه ومكانته العالية، ومحاولة استعطاف الرسول صلى الله عليه وسلم ولكنه عليه الصلاة والسلام الرسول الأمين، الذي لم يغتر بذلك الأسلوب ومضامينه، الأمر الذي يجب أن لا يغتر بمثله مسلم، فالمسلمون أمناء على هذا الدين، ووسيلة التنميق وزخرف القول والإغراءات تظهر في المواقف المختلفة.
ولم يقاطعه رسول الله صلى الله عليه وسلم بالرغم من أن مطلع عرضه يدل على أنه لن يقبل شيئاً من ذلك البتة، بل كان أسلوبه ينم عن فضله وأدبه الجم صلى الله عليه وسلم فتركه يسترسل في كلامه حتى أتمه. وكثير من الناس اليوم لا يأخذون بهذا الأدب العظيم، فيقاطعون المتحدث وإن كان زميلاً، أو صاحب علم وقَدْرٍ ومكانة، فكيف لو كان عدواً ؟ فعليك صلاة الله وسلامه يا رسول الله. ففي كل لحظة من لحظات حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم دروس وعبر، فقد كناه صلى الله عليه وسلم : (يا أبا الوليد.) ثم يقول له: (أقد فرغت يا أبا الوليد ؟) فهو سؤال يدل على أدب الحديث الذي كان يتخلق به صلى الله عليه وسلم حتى مع أعدائه، فعدم رضاه بتلك العروض لم يدفعه إلى الإساءة في المحادثة مع ذلك الكافر.
وعندما انتهى إلى السجدة سجد، ولم يمنعه حديثه مع الرجل أن لا يسجد، بل أدى ما ينبغي أن يؤديه لربه سبحانه وتعالى كما ينبغي. وكم من الناس يتناسى بعض العبادات لوجود بعض الناس عنده، فيؤخرها عن وقتها مجاراة لهم.
ثم يبين المقطع الأخير من محادثة عتبة لقومه التأثر الواضح بما سمع من كلام رب العالمين، فوصفه وصفاً رائعاً وعميقاً في معناه ودلالاته، إلا أن هذا الأمر لا يرضى به كفار قريش لتقديمها الهوى والباطل على الحق.