ذكر ابن إسحاق :لما هلك أبو طالب نالت قريش من رسول الله صلى الله عليه وسلم من الأذى ما لم تكن تنال منه في حياة عمِّه أبي طالب، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الطائف يتلمس النصرة من ثقيف، والمَنَعة بهم من قومه، ورجاء أن يقبلوا منه ما جاء به من الله عز وجل ، فخرج إليهم وحده.
وهكذا الضعف في كل وقت وحين يُغري أهل الباطل والشرور؛ ليتمادوا في طغيانهم وجبروتهم، ولذلك لا بد لأهل الحق من التقوي، والمحافظة على القوة ومصادرها؛ حتى لا يطمع الطامعون. وإنَّ ما مر به رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا الموقف وفي غيره من المواقف ليعطي دروساً عظيمة في هذا الأمر.
وإن الله تعالى لقادر على نصر رسوله من أول لحظه من لحظات البعثة النبوية؛ دون أن يتعرض لهذه العقبات، ولكنها تربية الله تعالى لأمة الإسلام؛ من خلال منهج النبوة في الدعوة والصبر، والأخذ بالأسباب، والعلم بأن الأنبياء ليسوا مستثنين من الشدائد؛ بل ما يصيبهم من أذى أقوامهم الكافرين شيء غير يسير.
ولئن صبر رسول الله صلى الله عليه وسلم على قومه بهذه الصور المتعددة من ألوان الأذى؛ ليَحْسُن بالقائمين على أمور التعليم والتربية أن يصبروا على مشقة التعليم والتربية والتوجيه، فما يجدونه من مصاعب ومتاعب لا يوازي شيئاً أمام ما واجهه رسول الله صلى الله عليه وسلم وكذلك المرء في بيته ومع أهله؛ من زوجة وأبناء وغيرهم، ويمتد ذلك إلى الإداري والمدير والمسئول والوزير، والحاكم والوالي فيما يجد من مشقة وعناء، فيتذكر صبر رسول الله صلى الله عليه وسلم على ما وجد ولقي في رسالته من المتاعب والمصاعب.
ولما انتهى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الطائف عَمَد إلى نفر من ثقيف، هم يومئذ سادة ثقيف وأشرافهم، وهم إخوة ثلاثة: عبد ياليل بن عمرو بن عُمير، ومسعود بن عمرو بن عُمير، وحبيب بن عمرو بن عمير، فجلس إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فدعاهم إلى الله تعالى، وكلمهم بما جاءهم له من نُصرته على الإسلام، والقيام معه على من خالفه من قومه، فقال له أحدهم: هو يمرط ثياب الكعبة إن كان الله أرسلك، وقال الآخر: أما وجد الله أحداً يرسله غيرك! وقال الثالث: والله لا أكلمك أبداً، لئن كنت رسولاً من الله كما تقول لأنت أعظم خطراً من أن أرد عليك الكلام، ولئن كنت تكذب على الله ما ينبغي لي أن أكلمك. فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم من عندهم وقد يئس من خبر ثقيف، فقال لهم : إذ فعلتم ما فعلتم فاكتموا عني، وكره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبلغ ذلك قومه عنه فيثيرهم ويجرئهم عليه.
فلقد أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بأسباب النصر والقبول ولم ييئس عليه الصلاة والسلام، وتكبد المشاق والأذى، مما يؤكد أهمية قوة العزيمة، والبحث عن أسباب الخير والنجاح، وعدم الركون والاستسلام للمصاعب التي تواجه المسلم في أموره مهما كانت الأسباب، وفي جميع مجالات الحياة، طالما أنها خير وصلاح. ولا يغتر المسلم برد أهل الكفر والفسق، بل يحيد عنه ويبحث في غيره، فالأسباب من مطالب أعمال البشر والتوفيق من الله تعالى؛ يأذن به متى شاء سبحانه وتعالى، ولا ينتظر المسلم النجاح والقبول من أول مرة، فقد تكون هناك كبوات، فيصبر كما صبر نبي الله ورسوله صلى الله عليه وسلم.
كما أن العدو لا يكتم سراً.فقد أغروا به سفهاءهم وعبيدهم، يسبونه ويصيحون به، حتى اجتمع عليه الناس وألجؤه إلى حائط لعتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة، وهما فيه، ورجع عنه من سفهاء ثقيف من كان يتبعه، فعمد إلى ظل عنب فجلس فيه صلى الله عليه وسلم.
فلما اطمأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (اللهم أشكو إليك ضعف قوتي؛ وقلة حيلتي؛ وهواني على الناس؛ يا أرحم الراحمين؛ أنت رب المستضعفين؛ وأنت ربي، إلى من تكلني ؟ إلى بعيد يتجهمني ؟ أم إلى عدو ملَّكته أمري ؟ إن لم يكن بك عليَّ غضب فلا أبالي، ولكن عافيتك أوسع لي، أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات، وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة؛ من أن تنـزل بي غضبك، أو يحل على سخطك، لك العتبى حتى ترضى، ولا حول ولا قوة إلا بك.)
وهكذا يعلمنا رسول الله بهذا الدعاء والانكسار إلى الله تعالى؛ كيف يكون المسلم مع ربه عز وجل فقد رفع أمر الضعف وقلة الحيلة والهوان على الناس لأرحم الراحمين؛ ورب المستضعفين، وأن ما يلقاه المسلم من المعاناة والتعب والمصائب توجب عليه أن لا يسخط، ولا يظن بربه إلا خيرا، وأن كل الابتلاءات تتضاءل إذا كان ليس سببها غضب الرب سبحانه وتعالى، ولكن عافية الله تعالى ورحمته هي الأوسع للإنسان من ابتلاء وعقاب الرب جل جلاله، فما بال الذين يظنون بأنفسهم خيرا ؟ ويقولون عند الابتلاء: يارب ماذا صنعت حتى يحل علي هذا البلاء؟ فيبادر بتزكية النفس قبل أن يفتش عن ذنوبه وتقصيره، فكم في هذا الدعاء من دروس الأدب مع الرب سبحانه وتعالى، ومنهجية الدعاء وطرق الالتجاء إليه عز وجل وتعظيمه تبارك وتعالى.
ففي كل موقف ولفظ منه صلى الله عليه وسلم دروس قد حفلت بها سيرته العطرة صلى الله عليه وسلم.
وتذكر أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها ما قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بلاء قومه له، فيقول عُرْوَةُ رضي الله عنه : (أن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم حدثته أنها قالت للنبي صلى الله عليه وسلم: هل أتى عليك يومٌ كان أشد عليك من يوم أحد ؟ قال: لقد لقيت من قومك ما لقت: وكان أشد ما لقيت منهم يوم العقبة إذ عَرَضتُ نفسي على ابن عبد يا ليل بن عبد كُلال فلم يجبني إلى ما أردت، فانطلقت وأنا مهموم؛ على وجهي، فلم أستفق إلا وأنا بقرن الثعالب، فرفعت رأسي؛ فإذا أنا بسحابة قد أظلتني، فنظرت فإذا فيها جبريل، فناداني؛ فقال: إن الله قد سمع قول قومك لك؛ وما ردوا عليك، وقد بعث الله إليك مَلَكَ الجبال لتأمره بما شئت فيهم، فناداني مَلَكُ الجبال، فسلم علىَّ ثم قال: يا محمد، فقال: ذلك فيما شئت، إن شئت أن أطبق عليهم الأخشبين. فقال النبي صلى الله عليه وسلم : بل أرجو أن يُخْرج الله من أصلابهم من يعبد الله وحده؛ لا يشرك به شيئاً )
وهكذا يصور لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم شدة ما لقيه من قومه، وصدهم عن الحق وعدم قبوله، والتعرض له صلى الله عليه وسلم بالأذى حتى انطلق مهموماً فلم يستفق إلا وهو بقرن الثعالب. وإنها لصورة تؤكد بجلاء حجم ما أصابه صلى الله عليه وسلم من قومه، ولكن بعد برهة من الوقت يطل عليه جبريل عليه السلام من السماء، ولا شك إنها لرحمة من ربه عز وجل بإرسال جبريل عليه السلام إليه، لتكون مواساة وتذكيراً بأن الله مطلع على كل ما دار بينك وبين قومك وأنه معك يراك ويسمعك، فسبحان الله العظيم الذي لا تخفى عليه خافية في الأرض ولا في السماء، يسمع السر وأخفى. ثم هذا مَلَكُ الجبال لم يكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا بعد أن أخبر جبريل بخبره. ثم ها هو صلى الله عليه وسلم وهو في أشد معاناته من قومه؛ وفي حالة انزعاجه لما أصابه منهم، فلم يثير ذلك عنده الرغبة في الانتقام، ولم يستدعيه ذلك إلى الثأر منهم، فيطلب من مَلَك الجبال أن يطبق عليهم الأخشبين، ولكن يشفق عليهم رجاء أن يُخْرِجَ الله من أصلابهم من يُوحِّد الله تعالى ويعبده وحده لا يشرك به شيئا، فلم يستأثر لنفسه بعقوبة عاجله. إنه الهدف عندما يكون واضحاً للمرء؛ فإنه يُثمر سلوكاً صحيحاً وفكراً مستقيماً وقراراً حكيماً.
قال تعالى (فبما رحمة من الله لنت لهم ولو كنت فظاً غليظ القلب لانفضوا من حولك فاعف عنهم واستغفر لهم وشاورهم في الأمر فإذا عزمت فتوكل على الله إن الله يحب المتوكلين) وكم هي الشحناء والبغضاء بين صفوف الأمة؛ وليس إلا لأمور بعيدة عن الهدف الحقيقي وهو تحقيق العبودية لله تعالى، وغالبها محبة في الانتصار للنفس وحظوظها، وحب العلو على الغير، وبالتالي تأتي التصورات الخاطئة، ، فيتولد عنها التأويل الفاسد؛ فالحكم الباطل؛ ثم القرار الخاطئ، فتأتي المكائد والدسائس. أفليس في منهجه النبوي صلى الله عليه وسلم ما يصحح الأهداف والتصورات، فيتبعها السلوك. فهاهو صلى الله عليه وسلم يواجه معاناةً وصداً وتهجماً وأذى من عدو قريب، فيقابلها بالهدف الحقيقي من وجوده ورسالته، والهدف من وجودهم وخلقهم، فتتصاغر أمامه صلى الله عليه وسلم جميع ألوان الأذى والصدود، ولكن القول فيك يا رسول الله ما قاله الله تبارك وتعالى عنك ( وإنك لعلى خلق عظيم
) إن هذا الخُلُق العظيم جعل عدَّاس النصراني يتعجب من أمر رسول اللهصلى الله عليه وسلم فلما وصل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى حائط لعتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة؛ قالا لغلام لهما نصرانياً يقال له عداس: خذ قِطَفاً من هذا العنب، فضعه في هذا الطبق، ثم اذهب به إلى ذلك الرجل، فقل له يأكل منه، ففعل عداس، فلما وضع رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه يده قال: بسم الله، فقال عداس: عن هذا الكلام: والله لا يقوله أهل هذه البلاد، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن أهل أي البلاد أنت يا عداس؟ وما دينك ؟
إِنَّ هَمَّ هذا الدين يحمله رسول الله صلى الله عليه وسلم معه في كل لحظة، فلقد باشره بالسؤال عن دينه، وهو في موقف يكاد المرء فيه لا يحمل إلا همه الشخصي.
فيجيبه عداس : نصراني، وأنا من أهل نينوى، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم من قرية الرجل الصالح يونس بن متى؟ فقال له عداس: وما يدريك ما يونس بن متى، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ذاك أخي، كان نبياً وأنا نبي، فأكب عداس على رسول الله صلى الله عليه وسلم يُقَبِّل رأسه ويَدَيْه وقدميه.
فيقول أبناء ربيعة أحدهما للآخر : أما غلامك فقد أفسده عليك، فلما جاءهما عدّاس قالا له: ويلك يا عدّاس ! ما لك تقبل رأس هذا الرجل ويديه وقدميه ؟ قال: يا سيدي ما في الأرض شئ خير من هذا، لقد أخبرني بأمر ما يعلمه إلا نبي، قالا له : ويحك يا عداس لا يصرفنك عن دينك، فإن دينك خير من دينه.
وهكذا يؤكد عدّاس لهما أن هذا نبي، وأن ما أخبر به صلى الله عليه وسلم لا يعرفه إلا نبي، ولكنهما أعرضا عن قول عدّاس الذي شهد بنبوته صلى الله عليه وسلم وبين لهما دليل ذلك.
ثم في عودته صلى الله عليه وسلم من الطائف حتى إذا كان بنخلة قام من جوف الليل يصلي، فمر به نفر من الجن الذين ذكر الله تعالى خبرهم في سورتي الأحقاف والجن، فاستمعوا له، فلما فرغ من صلاته ولَّوا إلى قومهم منذرين، قد آمنوا وأجابوا إلى ما سمعوا، قال الله تبارك وتعالى (وإذ صرفنا إليك نفرا من الجن يستمعون القرآن فلما حضروه قالوا أنصتوا فلما قضي وَلَّوا إلى قومهم منذرين قالوا يا قومنا إنا سمعنا كتاباً أُنْزِلَ من بعد موسى مصدقا لما بين يديه يهدي إلى الحق وإلى طريق مستقيم يا قومنا أجيبوا داعي الله وآمنوا به يغفر لكم من ذنوبكم ويُجِرْكُم من عذاب أليم ومن لا يجب داعي الله فليس بمعجز في الأرض وليس له من دونه أولياء أولئك في ضلال مبين).
فلقد تفاعل بعض الجن مع دعوته صلى الله عليه وسلم واستجابوا له، داعين ومنذرين قومهم، وإنه لأمر يزيد من عزيمة رسول الله صلى الله عليه وسلم فيشعر بأن هذا الجهد مشكور وفاعل ومقبول؛ فإن واجهه صدود في جانب قابله قبول في آخر.
وكم من الأنشطة الدعوية والتعليمية والإدارية ولاقتصادية والطبية التي يواجه القائمون عليها بعض العقبات والصعوبات فيحتاجون إلى الدعم والتشجيع الذي يشد أزرهم، ويشعرهم بأن أثر هذا الجهد في صعوباته التي يواجهونها نجاح يتحقق في جوانب أخرى.
وكم من تلميذ يتعثر فيحتاج إلى من يُبْرِز له نجاحه في جانب آخر لينشط، ويتشجع، وكم من طبيب وإداري وتاجر مسلم يتعثر فيحتاج إلى من يبين له نجاحه فيما غفل عنه، وكم من مصاب بجائحة أو بلاء؛ فلا يرى أمامه إلا ذلك الأمر؛ فيحتاج إلى من يبين له نِعَم الله تعالى عليه في أبواب أخرى قد حجبتها عنه مصائبه.