اختلف علماء البلاغة والتفسير في تحديد مفهوم البشارة الاصطلاحي, وسبب الخلاف هو هل الشرّ أي الخبر الـمُحزِن يدخل في مفهوم البشارة إذا كان ورد بلفظ البشارة أو أحد مشتقّاتها, أم لا, وبناء على ذلك, أصبح مفهومان لمعنى البشارة عندهم, هما:
المفهوم الأول: البشارة هي كل خبر صادق تتغير به بشرة الوجه, ويستعمل في الخير والشرّ, وفي الخير أغلب.
قال الحريري: (( وعند أكثرهم أن لفظة بشّرته لا تستعمل إلا في الإخبار بالخير, وليس كذلك، بل قد تستعمل في الإخبار بالشرّ كما قال سبحانه: (فبشّرهم بعذاب أليم) والعلّة فيه أن البشارة، إنما سمّيت بذلك لاستبانة تأثير خبرها في بشرة الـمُبَشَّر بها، وقد تتغيّر البشرة للمساءة بالمكروه، كما تتغيّر عند المسرّة بالمحبوب, إلا أنه إذا أطلق لفظها وقع على الخير, كما أن النذارة تكون عند إطلاق لفظها في الشر )).
وقال الرازي: (( التبشير في عرف اللغة مختص بالخبر الذي يفيد السرور, إلا أنه بحسب أصل اللغة عبارة عن الخبر الذي يؤثر في تغير بشرة الوجه، ومعلوم أن السرور كما يوجب تغير البشرة فكذلك الحزن يوجبه. فوجب أن يكون لفظة التبشير حقيقة في القسمين )).
علما بأن الرازي اختار المفهوم الثاني كما سيأتي.
المفهوم الثاني. البشارة الخبر السارّ فقط, واستعماله في غيره كقوله تعالى: (فبشّرهم بعذاب أليم) استعارة, أو تهكم,كقول الشاعر: (( تحية بينهم ضرب وجيع ))
قال الكفوي : (( البشارة: اسم لخبر يغيّر بشرة الوجه مطلقا, سارّا كان أو مُحزنا, إلا أنه غلب استعمالها في الأوّل وصار اللفظ حقيقة له بحكم العرف حتى لا يفهم منه غيره, واعتبر فيه الصدق على ما نصّ عليه في الكتب الفقهية, فالمعنى العرفي للبشارة هو: الخبر الصدق السارّ الذي ليس عند الـمُخبَر به علمه )).
وهذا هو المفهوم المختار عند أكثر العلماء. أمّا استخدام البشارة للشّر والمكروه كقوله تعالى: (فبشّرهم بعذاب أليم) فأجاب أصحاب هذا المفهوم بأنها ليست بشارة, وإنّما هي أسلوب من أساليب اللغة العربية من الاستعارة التهكّميّة, ونحو ذلك.
قال الزمخشري: (( والبشارة: الإخبار ممّا يظهر سرور المُخبَر به… وأمّا (فبشّرهم بعذاب أليم) فمن العكس في الكلام الذي يقصد به الاستهزاء الزائد في غيظ المستهزأ به وتألّمه واغتمامه, كما يقول الرجل لعدوّه: أبشر بقتل ذرّيتك ونهب مالك )).
وقال السمعاني: (( إنّ العرب لا تضع البشارة إلا في موضع السرور )).
وقال ابن عاشور في قوله تعالى: (فبشّرهم بعذاب أليم) : وحقيقة التبشير: الإخبار بما يُظهر سرور المخبَر( بفتح الباء ) وهو هنا مستعمل في ضدّ حقيقته، إذ أريد به الإخبار بحصول العذاب، وهو موجب لحزن المخبَرين، فهذا الاستعمال في الضدّ معدود عند علماء البيان من الاستعارة، ويسمّونها تهكّمية لأنّ تشبيه الضدّ بضدّه لا يروج في عقل أحد إلاّ على معنى التهكّم، أو التمليح، كما أطلق عمرو ابن كلثوم اسم الأضياف على الأعداء، وأطلق القرى على قتل الأعداء، في قوله:
نزلتم مَنزل الأضياف منّا فعَجَّلْنَا القِرى أن تشتمونا
قَزَيْنَاكُم فعَجَّلْنا قِراكم قُبَيْل الصُّبْح مِرْداةً طَحُونا
وقال ابن العربي: (( قال علماؤنا: البشارة هي الإخبار عن المحبوب, والنذارة هي الإخبار بالمكروه, وذلك في البشارة يقتضي أول مخبر بالمحبوب, ويقتضي في النذارة كل مخبر. فإن قيل: فقد قال الله تعالى: (فبشّرهم بعذاب أليم) فاستعمل البشارة في المكروه. فالجواب: أنهم كانوا يعتقدون أنهم يحسنون, وبحسب ذلك كان نظرهم للبشرى, فقيل لهم: بشارتكم على مقتضى اعتقادكم عذاب أليم. فخرج اللفظ على ما كانوا يعتقدون أنهم محسنون, وبحسب ذلك كان نظر له على الحقيقة )).
والظاهر أنه ليس ثمة خلاف بينهم في استخدام البشارة للشر, لأن الجميع يقرّون بذلك, لوجوده فعلا في الكتاب العزيز. وإنما الخلاف في تسمية هذا الأسلوب, أي هل هو أسلوب من أساليب البشارة, أم أسلوب من أساليب الاستعارة التهكّمية. ثم لو سُلِّم أنه أسلوب من أساليب البشارة, فهل هو على أساس العرف, أم على أساس معناها اللغوي, أي تغيّر البَشَرة. لا شكّ أن القائلين بالقول الأوّل يرونه على أساس اللغة لا على أساس العرف. كما تقدّم تعليل الحريري والرازي بذلك. بل الرازي صرّح أن التبشير في عرف اللغة مختص بالخبر الذي يفيد السرور, مع إقراره بأن البشارة بالشرّ تعتبر حقيقة باعتبار تغيّر البشرة. ثمّ يقول: (( البشارة بالعذاب ممتنعة )). ممّا يدلّ على أن البشارة بالشرّ ليست بشارة عرفية.والذي قاله الكفوي هو خير توفيق بين القولين ممّا يدل على دقّة الرجل في هذا المجال.
هذا, واستخدام البشارة للشرّ مقيّدة به ليس خاصّا بها, بل توجد في اللغة العربية نماذج كثيرة من الألفاظ والمصطلحات شاع استخدامها في حالة الإطلاق, أو في العرف للخير خاصة, ثم قد تستخدم للشرّ مقيّدة به. مثل مصطلح الوعد والهداية ونحوهما.
والذي يرتضيه الباحث هو المفهوم الثاني؛ لأن البشارة من حيث واقع العرف أصبحت حقيقة للخير, كما تقدم. كما أنه اختيار أكثر العلماء. كما أشار إليه الحريري.
وعلى كل حال, يبدو أن السبب في ذلك يرجع إلى وجهات نظر العلماء المختلفة, فالذين أدخلوا كلمة (( الشر )) في تعريف البشارة, إنهم نظروا إلى أصل معناها اللغوي الذي هو تغيير بشرة الوجه. وإلى وجود استخدامها للشر فعلا, في حالة كونها مقيدة به, ولو كانت قليلة الاستخدام نسبيا.
والذين ذهبوا إلى أن البشارة (( هي الخبر السار فقط )) واستعماله في الشر من باب الاستعارة التهكمية أو الاستهزاء, إنهم نظروا للاعتبارات التالية:
العرف. حيث أن العرف جرى على استخدامها للخير. حتّى صارت حقيقة له, لا يفهم منها غيرها.كثرة ورودها للخير أكثر بكثير, سواء كانت مقيدة به أم مطلقة.قلة ورودها للشر, بالإضافة إلى ضرورة تقييدها به. كما يدل عليه مضمون القرآن الكريم نفسه, حيث أن لفظ البشارة بالخير وردت فيه ((77)) موضعا, تارة مقيدة بالخير, وأخرى مطلقة, أما البشارة بالشر فلم ترد فيه إلا (( 7 )) مواضع, وهي في جميع المواضع مقيدة بالشر. ولولا ورودها في القرآن الكريم لأصبح شيئا نادرا , كاد أن لا يوجد لها مثالا في اللغة العربية.سياق ورود البشارة للشر. حيث أن سياقها يدل على أنها استخدمت من باب الاستعارة أو التهكم, وذلك لمزيد من التنكيل والاستهزاء بالمستحقّين لهما.الواقع اللغوي لها, حيث إن البشارة أو التبشير ومشتقاتها في اللغة تدل بصفة عامة على السرور والفرح والطلاقة, والحسن والجمال, وعلى الخبر السار.ورود البشارة في القرآن الكريم مقترنة بالنذارة في سياق واحد في كثير من الآيات. ومن ذلك ورودهما كصفتين لازمتين للرسول صلى الله عليه وسلم.اتفاق الجميع على أن البشارة المطلقة لا تكون إلا للخير.كذلك اتفاقهم على أن البشارة لو أريد بها الشر, فلا بد من تقيدها به.وفي ضوء هذه الاعتبارات السابقة يمكن تعريف البشارة اصطلاحيا وفق المفهوم الثاني بأنها: “كل خبر صادق سارّ مُتّجَه إلى الـمُخْبَر الـمُخاطَب غير العالم به تتغيّر به بشرة وجهه فرحا وسرورا “.
والواقع أن البشارة هي الخبر الصادق السارّ الـمُفرح فقط, أما قيد (( تتغيّر به بشرة الوجه فرحا وسرورا )) ليس قيدا احترازيا, وإنما هو عبارة عن أثر لعملية البشارة, أي بيان مدى تأثير لعملية البشارة, فالفرح والسرور أمران افتراضيان داخليان في النفس الإنسانية, لا يمكن ملاحظتهما مباشرة, وإنما يستدل عليهما من خلال آثارهما. ومن هنا فأن تغيّر بشرة وجه المُبَشَّر يكون خير دليل على معرفة مدى فاعلية البشارة ونجاحها, فإذا لم تتغير بشرة وجه المُبَشَّر بسبب ما, فمعنى ذلك أن البشارة أخفقت في تحقيق تأثيرها على نفس المبشَّر. مع التنبيه على أنه ليس من الضروري دائما أن تظهر علامات الفرح والسرور في بشرة وجوه جميع المخاطبين بها, فهناك شخص يفرح في داخل نفسه وباطنه في موقف ما, ولكن يخفيه, ويحاول أن لا يظهر أثره في وجهه بسبب ما, وبالخصوص إذا كان قد وصل ذاك الشخص إلى درجة عالية من ضبط حالته الانفعالية, بسبب بعد النظر في عاقبة الأمور, أو بسبب المرور على خبرات طويلة في حياته, ونحو ذلك. كما قال الإمام البخاري رحمه الله عن نفسه: (( الحامد والذامّ عندي سواء ))
كذلك نحن كمسلمين نسمع مرارا آيات القرآن الكريم الواردة في بشارة المسلمين بالجنة والفوز والنصر والفتح ونحو ذلك. ولكن قد لا تتغيّر بشرة وجوهنا بها في كل من المواقف. ولعلّ السبب في ذلك يرجع إلى أن علامات الفرح والسرور تحدث عند السماع الأول للبشارة. وكلما يتكرّر سماعها والحديث عنها كلما يتضاءل حدوث علاماتها تدريجيا, لأنها ثابتة في النفوس والقلوب مُسبقا, كما تقدّم أن من شرط البشارة أن لا يعلم الـمُخبَر بها مُسبقا. كذلك يرجع سببه إلى ما طرأ من الضعف والنقص في إيمان كثير من المسلمين, مع الضعف والنقص في معرفة الله تعالى وصفاته العلى.
هذا وواضح أن هذا المفهوم للبشارة يشمل جميع الأخبار السارّة الواردة في القرآن الكريم, سواء كانت بصيغة البشارة اللفظية ومشتقاتها