كما أن في تعجيل النعم نعمة، فإن في تأجيل النعمة نعمة، يتفضل الله بها كرما على عباده، لسابق علمه بهم، وبما يصلحهم من التأخير والتقديم. ولجهل العبد بحال مآله بعد تغير حاله ما يدفعه إلى وضع التصور في غير موضعه.
فعندما نصاب بنعمة من نعم الله تعالى في وقت نشعر فيه بحسب مقاييسنا الضيقة أنها لو كانت قبل هذا الوقت لكانت أحسن، فيحصل عند المرء قدر من الانزعاج أو الحسرة، كمن يعطيه الله تعالى ولد بعد كبر في السن، أو يعطيه مالا بعد أن امتلأ وجهه ببياض لحيته، أو منصب بعد رحيل الشباب وانطفاء قوة الاندفاع .
فعندما يصاب العبد بواحدة من تلك النعم يقول : يا ليتها كانت قبل هذا.
فكم من شخص رزقه الله مالا بعد كبر في السن، فيقول : جاء المال بعد عمر حال بيننا وبين الاستمتاع به، أو ينظر لولده الصغير، بعد أن طعن في السن: فيقول في نفسه : ما عاد ينفعني، أو كيف انتفع به بعد هذا السن الطاعن.
فهذه نظرة قاصرة عن حكمة الله تعالى ، وقاصرة عن معرفة أقدار الله تعالى، وعدم أدب مع نعمة الله تعالى. ولا شك أن هذا قصور في معرفة الحكمة الإلهية فيما سبق.
فلنأخذ الدرس أولا من إبراهيم عليه الصلاة والسلام، إذ قال كما جاء في قوله تعالى (الحمد الله الذي وهب لي على الكبر إسماعيل وإسحاق، إن ربي لسميع الدعاء ) فقد دعا إبراهيم ربه تبارك وتعالى فاستجاب لدعائه، فحمد الله وأثنا عليه على نعمة الولد بعد أن كبر في السن.
فلله الحكمة البالغة في منعه وعطائه وتأجيله، تغيب عن عبده، لجهله بعواقب الأشياء ، ولجهله بقدرته على حسن التعامل مع عطاء الله تعالى، فرب عطاء المال في الشباب مفسدة على دينه وأخلاقه، وعلى أهله، وربما في تأجيل الولد خير عظيم ، ادخره الله لعبده، لما في سابق علم الله تعالى من أن هذا الولد قد يطغيه أو قد يجر عليه نكداً في حياته، وهكذا في كل نعمة تتأجل حكمة يعلمها الله ولا يدركها العبد الفقير إلى علم الله وحكمة الله في المنع والعطاء والتأجيل.
وتأمل قول الله تعالى (ولو بسط الله الرزق لعباده لبغوا في الأرض، ولكن ينزل بقدر ما يشاء، إنه بعباده خبير بصير)
ففي علم الله تبارك وتعالى عن عبيده أنه لو بسط الرزق ووسعه عليهم لبغوا في الأرض، وطغى بعضهم على بعض، ولكن الله ينزل رزقه على عباده بقدر ما يشاء لكفايتهم وتحقيق مصالحهم، حتى لا يحصل البطر والأشر، وذلك أن الله تعالى خبير بما يصلح لكل فرد منهم ، من الكثرة أو القلة، والتأجيل أو التعجيل. فلله الحكمة البالغة، العالم البصير بتدبير عباده وتصريف أحوالهم.
وبالتالي فإن من الأدب الذي يلزم ويجب على المرء أن يتأدب به مع الله تعالى أن يحمد الله على كل حال وأن يثني عليه الثناء العظيم الذي يليق بجلاله وعظمته وحكمته سبحانه وتبارك.
وكذلك أهمية الرضا بالقضاء والقدر، فإن به تحصل السعادة النفسية، ويتحقق به الخير من الله المنعم، ويعظم به الأجر والفوز عند الله تبارك وتعالى.
اللهم إنا نسألك أن تمنحنا تدبيرك الذي نفوز به في الدنيا والآخرة.ونسألك الرضا بأقدارك، والفطنة بحكمتك، ونسألك أن ترزقنا الأدب معك يا كريم يا رحمن يا رحيم، وأن تعلمنا ما ينفعنا، وتنفعنا بما علمتنا.