في هذه الإطلالة المفعمة بالمواقف التربوية، يتبين نهج النبي العملي التربوي العظيم، وعمق التربية التي بلغت ذروتها في قلوب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم. فعندما عرف النبي صلى الله عليه وسلم قدوم عير قريش من الشام إلى مكة، والتي انطلقت منها معركة بدر العظيمة، حصل هذا الموقف. فعن أنس ( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم شاور حين بلغه إقبال أبي سفيان، قال: فتكلم أبو بكر، فأعرض عنه، ثم تكلم عمر، فأعرض عنه. فقام سعد بن عبادة؛ فقال: إيانا تُريد ؟ يا رسول الله ! والذي نفسي بيده ! لو أمرتنا أن نُخِيضها البحرَ لأخضناها، ولو أمرتنا أن نضرب أكبادها إلى بَرْكِ الغِمَادِ لفعلنا. قال: فندب رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس، فانطلقوا حتى نزلوا بدراً. ووردت عليهم روايا قريش.)
قال العلماء: إنما قصد صلى الله عليه وسلم بذلك أخذ موافقة الأنصار لأنه لم يكن بايعهم على أن يخرجوا معه للقتال؛ وطَلَب العدو، وإنما بايعهم على أن يمنعوه ممن يقصده، فلما عَرَضَ الخروج لعِير أبي سفيان أراد أن يعلم أنهم موافقون على ذلك، فأجابوه أحسن جواب؛ بالموافقة التامة.
و يتبين في هذا الحديث احترام رسول الله صلى الله عليه وسلم للمواثيق وعنايته بها، بالرغم من تَعَمُّق العلاقة مع الأنصار، وكذا بينهم وبين المهاجرين، ولم يدفعه ذلك عليه الصلاة والسلام إلى تجاهل بنود المعاهدة، وبالتالي يعطي هذا الحدث للأمة درساً في أهمية حفظ ما يتفقون عليه، وأن لا يجعلوا لقوة العلاقة وتَوَطّدِهَا مجالاً ومسلكاً لإذابة ما يتفقون عليه. وهذا يكون في دائرة الأسرة، ودائرة الصداقات، وفي محيط العمل والمهنة. كمن يستسهل الشروط المبرمة في عقد الزواج نتيجة ما حصل من قوة في العلاقة بين الأصهار، فيدفع ذلك أحدهم أو بعضهم على التفريط باعتبار ما حصل من تطور ونمو في العلاقة، وكذلك ما قد يحصل بين شركاء العمل والمهنة من تساهل البعض في الاتفاقيات المبرمة بينهم، نتيجة تطور ونمو تلك العلاقة؛ مما قد يترتب على ذلك من الضرر أو الشعور بأن لا قيمة لتلك المواثيق والعهود، ثم ما يعقب ذلك من مشاعر قد تضر بالأطراف.
ألا يربي هذا النهج العملي الأخلاقي في الأمة احترام المواثيق، وعدم إذابتها وإضاعتها أو إضعاف قوتها بما يحصل من التواد الذي ربما كان نتيجة تلك المواثيق وثمرتها.
إن الكريم من يحفظ العهود، ولا يستغل الظروف لإضاعتها أو إذابتها أو وأدها. بل يحفظها كاملة، ليكون وفيا كريما مخلصا. إلا إذا كان تنازلا من أهل الحق فيها.
وأما في إعراضه صلى الله عليه وسلم عندما أعرض عن الصحابيين الجليلين، ففيه إيماء لمقصده صلى الله عليه وسلم. وهذا الإيماء دون تحديد يدلل على كريم خُلُقه صلى الله عليه وسلم، مما يشير إلى أهمية هذا الأسلوب التربوي الراقي جداً، ولا سيما مع النبهاء وأولي الألباب، لما فيه من الآداب والتقدير،حيث فَطِن الأنصار إلى مقصده صلى الله عليه وسلم، وإلى ما يرمي إليه، فقام سعد بن عبادة رضي الله تعالى عنه؛ الفهيم اللبيب، مبيناً أن الذي فَهِمَهُ من رسول الله صلى الله عليه وسلم أنهم بيت القصيد، ثم باشر بالجواب، ولم يترك مجالاً لأن يَرُد عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم بنعم، أو نحو ذلك. وهذا من غاية الكرم والحب لمن يخاطبه، وهو رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فتُعطي هذه المحادثة الحوارية التي تمتلئ بآداب الحوار والمناقشة، الأسلوب الرائع الذي ينبغي أن يُؤخذ به في مثل ذلك. وما يجب أن يتعلمه المسلم من منهجه صلى الله عليه وسلم، الذي تربى عليه أصحابه فكانوا خير مجتمع بشري وقف على هذه الأرض.
وفي متابعة حديثه رضي الله تعالى عنه؛ يبين مقدار تفانيهم لرسولهم وحبيبهم صلى الله عليه وسلم، بعبارة راقية في مبناها ومعناها، فيقول: والذي نفسي بيده ! لو أمرتنا أن نُخِيضها البحرَ لأخضناها، ولو أمرتنا أن نضرب أكبادها إلى بَرْكِ الغِمَادِ لفعلنا.
قسمٌ بالله، ثم يتلوه بيان لغاية ما يمكن أن يخوضوه معه صلى الله عليه وسلم، وهي عبارات يدل مبناها على معناها الذي لا يمكن أن تُوصف بأكثر من وصف سعد رضي الله تعالى عنه؛ وإن هذا التفاني بالنفس لَيُعَلِّمَ الأمة ما يجب أن يكونوا عليه مع منهج ودين الله تعالى حتى بعد وفاته صلى الله عليه وسلم، بأن يبذل المسلم غاية وسعه، في نشره والذب عنه والعمل به، ولكن كم من يُفرّط في التطبيق لما هو مطلوب منه، فضلاً عن النشر والذب، ولكنك أنت يا الله أرحم الراحمين يا رب العالمين.