يوضح هذا الأنموذج من جيل الصحابة صورة من المناخ العلمي الذي تزخر به المدينة في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فيقول أنس بن مالك رضي الله عنه ( كان شباب من الأنصار سبعين رجلاً؛ يُسَمَّون القراء، قال: كانوا يكونون في المسجد، فإذا أمْسُوُا انتحوا ناحية من المدينة، فيتدارسون ويُصَلّون، يحسبُ أهلوهم أنهم في المسجد، ويحسبُ أهل المسجد أنهم عند أهليهم، حتى إذا كانوا في وجه الصبح استعذبوا من الماء واحتطبوا من الحطب، فجاؤا به، فأسندوه إلى حجرة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فبعثهم النبي صلى الله عليه وسلم جميعاً فأُصيبوا يوم بئر معونة، فدعا النبي صلى الله عليه وسلم على قَتَلَتِهِم خمسة عشر يوماً في صلاة الغداة)
ويوضح هذا النموذج حرص الشباب من الصحابة على تطويع وإعمال عقولهم في كسب العلم النافع. كما يوضح هذا الحديث حرص شباب الصحابة على التعلم، وعلى حفظ هذا الدين، وبذل الجهد في ذلك، واستغلال مرحلة القوة والجلادة، والإخلاص لله تعالى بذهابهم إلى طرف المدينة للمدارسة، بحيث يعتقد أهل المسجد أنهم في بيوتهم، ويحسب أهلوهم أنهم في المسجد، ومن الفوائد التربوية استخدام ذلك الجيل أسلوب المدارسة التي تُرسخ العلم، مما يؤكد سبقهم إلى هذا المفهوم وتطبيقهم له، وكذلك يوضح هذا السلوك التربوي التعاون والتآلف بين طلاب العلم في المذاكرة والمدارسة. كما يؤكد أهمية صنيعهم العلمي أن دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم على قَتَلَتِهِم خمسة عشر يوماً في صلاة الغداة؛ وهذا دليل على مكانتهم ومنـزلة العلم الذي كانوا يحملونه رضي الله تعالى عنهم. كما أن في هذا الحديث خدمتهم لنبيهم ومعلمهم، وحرصهم وتفانيهم في ذلك، بجلب الماء والحطب إلى حجرة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فإنها حياة علمية نشطة؛ قد ازدهرت في المدينة، وبزغ فجرها ببعثته صلى الله عليه وسلم وسطع نورها في أرجاء المعمورة. فها هو المناخ العلمي الجاد والنشط الذي كان سائداً في المدينة النبوية بعد أن هاجر إليها المصطفى صلى الله عليه وسلم فكانت الحركة العلمية في ازدهار منذ ذلك التاريخ حتى يومنا هذا وستظل بإذن الله تعالى في كل أنحاء المعمورة، تزدهر بعلم الشريعة الغراء التي جاء بها الرسول صلى الله عليه وسلم.
فلقد كان عهده صلى الله عليه وسلم علم وتعليم وتعلُّم وإقامة شعائر وعبادات، وفتوحات، قد ازدانت بها الدنيا.