من أعظم ركائز الإيمان محبة الرسول صلى الله عليه وسلم، ورسوخها في الفوأد، وتطبيقها بالفعال، من خلال امتثال ما جاء به صلى الله عليه وسلم عن الله تعالى، بكل حب وانشراح صدر، كما تمثل به الصحابة رضوان الله تعالى عليهم أجمعين، كما في هذا الموقف الذي تتنافس فيه المواقف التربوية على قمم الطاعة والمحبة وطهارة النفس وصفاء القلب وعمق التآخي، وإظهار محاسن المحسنين دون حسد أو غيرة.
فعن طارق بن شهاب، قال: سمعت ابن مسعود يقول: ( شَهِدْتُ من المقداد بن الأسود مشهداً لأن أكون صاحبَهُ أحبُّ إليَّ مما عُدِلَ به: أتى النبي صلى الله عليه وسلم، وهو يدعو على المشركين، فقال: لا نقول كما قال قوم موسى (اذهب أنت وربك فقاتلا) ولكنا نُقاتل عن يمينك وعن شمالك وبين يديك وخلفك، فرأيت النبي صلى الله عليه وسلم، أشرق وَجهُهُ وسَرَّه، يعني قوله)
وفي هذا الحديث حب ابن مسعود لمعالي الأمور الإيمانية وأنفسها، وعلو همته رضي الله تعالى عنه؛ كما فيه سلامة صدره رضي الله تعالى عنه؛ فلم يحسد صاحبه، فَذِكْرُهُ لهذا الحدث دليل على ذلك.. وهكذا يكون المسلم في علو همته الإيمانية، وتَصَعُّدُه في معالي الأمور التعبدية، التي تقربه من الله تعالى، فلا يرضى بالقليل منها، أو يكتفي بأداء الواجبات؛ بل يسعى ليكون في مصاف الأتقياء؛ قولاً وعملاً، إيماناً وعبادة وخُلُقاً. كما أن فيه مدح وثناء من ابن مسعود على ما تضمنته كلمات المقداد رضي الله تعالى عنهما. الأمر الذي يبين للمسلم كيف يكون في ما يُعجبه من فعل أو قول إخوانه، فلا يغمطهم حقهم، بل يبين فضل كلماتهم وآرائهم وأفعالهم إذا أحسنوا، وأن لا يتأثر بما قد يحدث في قلبه من غيرة، فيدفع ذلك بالعمل الصالح تجاههم، لأنه يكمن في هذا الأسلوب ما يثير المحبة بين المسلمين، ويوطد المزيد من قوى التلاحم والتواد.
وفيه فطنة المقداد وفضله، وشجاعته ومبادرته للخير، وتوفيق الله تعالى له بالكلم الطيب والنية الصادقة، الذي طابت به نفس رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقبل ذلك محبة الله لقوله الذي فيه مرضاته سبحانه وتعالى، حتى أشرق وجهُهُ صلى الله عليه وسلم، وسره ذلك الكلام من المقداد. وفيه فهمه وعلمه رضي الله تعالى عنه؛ بما كان من حال قوم موسى، واستفادته من قصتهم مع نبيهم، ليتمثل بما يجب أن يكون عليه المسلم مع نبيه ورسوله صلى الله عليه وسلم، وفيه منهجية التطبيق العملي من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، لما يسمعونه ويتعلمونه مما ينـزل به جبريل على نبيه صلى الله عليه وسلم، وهو ما تحتاج إليه التربية اليوم من تفعيل الأوامر والنواهي في حياة الأمة، من خلال المشاركة الفعلية لتطبيقات المنهج الإسلامي. كما أن في هذا النص القدرة التعبيرية المتألقة، التي أظهرت مراده بأحسن ما يمكن أن يكون عليه البليغ من الناس، فلله درك يا مقداد، ولله درك يا بن مسعود، رضي الله تعالى عنكم أجمعين؛ ورزقنا حبكم والعمل بما كنتم به تعملون مع رسول الله صلى الله عليه وسلم.