قَالَتْ عَائِشَةُ: يَا نَبِيَّ اللهِ، أَرَأَيْتَ إِنْ وَافَقْتُ لَيْلَةَ الْقَدْرِ، مَا أَقُولُ؟ قَالَ: ” تَقُولِينَ: اللهُمَّ إِنَّكَ عَفُوٌّ، تُحِبُّ الْعَفْوَ، فَاعْفُ عَنِّي ” مسند أحمد ط الرسالة (42/ 236)
1- قولها رضي الله عنها: ” أَرَأَيْتَ إِنْ وَافَقْتُ لَيْلَةَ الْقَدْرِ مَا أَدْعُو؟ فيه رغبة الصحابة في تعلّم الأدعية من رسول الله صلى الله عليه وسلم التي يناجون بها ربهم إيمانا منهم أنه صلى الله عليه وسلم أفضل من عرف ربه وعبده وناجاه بما هو أهل له. وهذا نظير قول أبي بكر الصديق رضي الله عنه لِرَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: عَلِّمْنِي دُعَاءً أَدْعُو بِهِ فِي صَلاتِي….
2- قولها رضي الله عنها: ” مَا أَدْعُو؟ “. فيه تعظيم الصحابة لليلة القدر ومعرفتهم قدرها، وما يكون فيها من الخير ، وما يحصل فيها من العبادات والقربات ومنها الدعاء. {قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلَا دُعَاؤُكُمْ} [الفرقان: 77]
3- قَالَ: ” تَقُولِينَ: اللَّهُمَّ إِنَّكَ عَفُوٌّ تُحِبُّ الْعَفْوَ فَاعْفُ عَنِّي ” . فيه أنّ خير الدعاء الدعاء المأثور. قال ابن باديس :” فيتعين أن يكرر المسلم هذا الدعاء ليلة القدر وأن يفضله على ما سواه لأنه لفظ أفضل الخلق الذي علمه لأحب زوجاته” . آثار ابن باديس (2/ 329)
4- وَأَصْلُ الْعَفْوِ: مِنْ عَفَتِ الرِّيحُ الْأَثَرَ إِذَا طَمَسَتْهُ. والعَفْوُ هو: التجاوز عن الذنب وترك العقاب عليه . والعَفُوّ من أسماء الله تعالى، والمحبة صفة لله تعالى. فالمؤمن يتوسل إلى ربه متذللا طامعا بذكر اسم العَفُوّ وبصفة المحبة، ثم يدعو الله تعالى طالبا حاجته بما هو مقتضى التوسل باسم الله تعالى العفو وصفة حب الله تعالى للعفو.
5- يطلبُ المؤمن ربه العَفْو لأحد ثلاثة أمور؛ لتفريط في واجب أو لارتكاب مُحرّم أولما سبق في علم الله من وقوع المؤمن في الذنب أواعتداده بعمله ، وليلة القدر فيها التقدير الحولي، فيحب المؤمن أن يكون ممن كتب له العفو والمغفرة، وهذا يوافق قوله صلى الله عليه وسلم: ” اللهُمَّ اغْفِرْ لِي مَا قَدَّمْتُ وَمَا أَخَّرْتُ، وَمَا أَسْرَرْتُ وَمَا أَعْلَنْتُ، وَمَا أَسْرَفْتُ، وَمَا أَنْتَ أَعْلَمُ بِهِ مِنِّي، أَنْتَ الْمُقَدِّمُ وَأَنْتَ الْمُؤَخِّرُ، لَا إِلَهَ إِلا أَنْتَ ”
5- وفي طلب العفو دليل على أن همّ المسلم هو الآخرة، قال تعالى: {فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ} [آل عمران: 185] ، قال ابن باديس رحمه الله[ آثار ابن باديس (2/ 328)]: “وهذا يفيد أن المسلم الذي يتطلب ليلة القدر إنما يتطلبها ليعمل صالحا ويجدّ في العبادة، فالمؤمن إنما يطلبها للدين لا للدنيا، وقد ثبت في الصحيحين عن أبي هريرة- رضي الله عنه- أن رسول الله- صلى الله عليه وآله وسلم-: «مَنْ قَامَ لَيْلَةَ القَدْرِ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا، غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ، وَمَنْ صَامَ رَمَضَانَ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ»……وكثير من العوام يتمنى لو يعلم ليلة القدر ليطلب بها دنياه فليتب إلى الله من وقع له هذا الخاطر السيء. فإن الله يقول في كتابه العريز: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ}. وكثير من العوام يعتقدون في بعض البيوتات الغنية أن مؤسس ذلك البيت رأى ليلة القدر، فسأل الله أن يجعل ماله ونسله خيرا من مال الناس ونسلهم، فكان ذلك، ثم يجعلون هذه الميزة الدنيوية دليلا على ولاية ذلك الداعي وصلاح ذريته. وحديث عائشة- رضي الله عنها- وآية من كان يريد حرث الآخرة وما في معنى ذلك من الآيات والآثار شاهدة بفساد ذلك الاعتقاد وضلال تلك الأفكار، وأن الفرق بين التقي والفاجر هو الإقبال على الآخرة أو الإقبال على الدنيا. ولسنا ننكر على من يطلب الدنيا بأسبابهها التي جعلها الله تعالى وإنما ننكر على من يكون همه الدنيا دون الآخرة حتى إنه يترصد ليلة القدر ليطلب فيها الدنيا غافلا عن الآخرة…”!. انتهى بتصرف.
6- قوله صلى الله عليه وسلم: اللهم إنك عَفُوٌّ تُحِبُّ العَفْوَ. فيه حسن ظنّ العبد بِربِّه وهذا من أسباب إجابة الدعاء. قال تعالى: { وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ } [آل عمران: 135]. وقال صلى الله عليه وسلم يقول الله تعالى: أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي، وَأَنَا مَعَهُ حِيْنَ يَذْكُرُنِي”. وعن أَبَي هُرَيْرَةَ، قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: ” إِنَّ عَبْدًا أَصَابَ ذَنْبًا – وَرُبَّمَا قَالَ أَذْنَبَ ذَنْبًا – فَقَالَ: رَبِّ أَذْنَبْتُ – وَرُبَّمَا قَالَ: أَصَبْتُ – فَاغْفِرْ لِي، فَقَالَ رَبُّهُ: أَعَلِمَ عَبْدِي أَنَّ لَهُ رَبًّا يَغْفِرُ الذَّنْبَ وَيَأْخُذُ بِهِ؟ غَفَرْتُ لِعَبْدِي، ثُمَّ مَكَثَ مَا شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ أَصَابَ ذَنْبًا، أَوْ أَذْنَبَ ذَنْبًا، فَقَالَ: رَبِّ أَذْنَبْتُ – أَوْ أَصَبْتُ – آخَرَ، فَاغْفِرْهُ؟ فَقَالَ: أَعَلِمَ عَبْدِي أَنَّ لَهُ رَبًّا يَغْفِرُ الذَّنْبَ وَيَأْخُذُ بِهِ؟ غَفَرْتُ لِعَبْدِي، ثُمَّ مَكَثَ مَا شَاءَ اللَّهُ، ثُمَّ أَذْنَبَ ذَنْبًا، وَرُبَّمَا قَالَ: أَصَابَ ذَنْبًا، قَالَ: قَالَ: رَبِّ أَصَبْتُ – أَوْ قَالَ أَذْنَبْتُ – آخَرَ، فَاغْفِرْهُ لِي، فَقَالَ: أَعَلِمَ عَبْدِي أَنَّ لَهُ رَبًّا يَغْفِرُ الذَّنْبَ وَيَأْخُذُ بِهِ؟ غَفَرْتُ لِعَبْدِي ثَلاَثًا، فَلْيَعْمَلْ مَا شَاءَ ” البخاري7507
7- العفو عن الناس سبب لعفو الله كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {إِن تُبْدُواْ خَيْرًا أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُواْ عَن سُوَءٍ فَإِنَّ اللهَ كَانَ عَفُوًّا قَدِيرًا} [سورة النساء(149) ]، وكما قال تعالى: {وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ } [النور: 22]. والمعنى كما قال ابن جزي رحمه الله: “كما تحبون أن يغفر الله لكم، كذلك اغفروا أنتم لمن أساء إليكم ” [التسهيل لعلوم التنزيل (2/ 65). ] والعفو عن الناس إحسان، والله يحب المحسنين.
8- فيه فضل عائشة رضي الله عنها، حيث حرصت على تطلب الخير ومعرفته من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهي سبب وصول هذا الدعاء إلينا والمتسببة فيه رضي الله عنها، وجزاها الله عن المسلمين خير الجزاء.