إن من رحمة الله تعالى بعباده وكرمه وجوده أنه يعطي على العمل القليل الأجر العظيم، بل ويرتب على انتفاع المسلمين من بعضهم لبعض ما يجعلهم يتنافسون على ذلك وعلى الاجتماع بينهم، ويستشعرون افتقار بعضهم لبعض في أمور الدنيا والآخرة مهما استغنى أحدهم بمال أو جاه.
عن عبد الله بن العباس رضي الله تعالى عنهما ( أنه مات ابن له بقديد أو بعسفان. فقال: يا كُرَيب، انظر ما اجتمع له من الناس. قال: فخرجتُ‘ فإذا ناسٌ قد اجتمعوا له، فأخبرته، قال: يقول: هم أربعون ؟ قال: نعم. قال : أخرجوه، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : “ما من مسلم يموت، فيقوم على جنازته أربعون رجلاً لا يشركون بالله شيئاً، إلا شفعهم الله فيه”) أحمد، المسند (4/307).
ففي هذا الحديث عظيم رحمة الله تعالى، إذ جعل بهذا العدد المحدود في الصلاة على الميت ما ينجي الميت بشفاعتهم، وفي هذا إكرام الله تبارك وتعالى لمطلب ودعاء الموحدين، وإكرامهم فيما شفعوا فيه، مما يبين منزلة أهل التوحيد ومكانتهم العالية الرفيعة التي جعلت للقائمين به منزلة جليلة القدر عند ربهم وخالقهم سبحانه وتعالى.
وفي هذا الحديث العظيم ما يبين حاجة المسلمين لبعضهم البعض في جلب المنافع ودفع المضار، حتى في أمور الآخرة، مهما استغنوا بأموالهم أو جاههم عن بعض. وأن هذه الحاجة ليست قاصرة على من تعرفهم بأعيانهم من المسلمين بل حتى من تجهلهم بأعيانهم، فلأنت أشد حاجة لكل من عرفت وجهلت، ليصلي على جنازتك أو جنازة من تحب، ليشفعهم الله تعالى فيك أو في من أحببت.
إن في هذا الحديث النبوي العظيم دلالات تربوية عميقة، إذ فيه تربية الأمة على استشعار افتقارهم لبعضهم البعض، وهذا الاستشعار يدفع المتأمل في معاني الحديث إلى محبة الآخرين والحرص عليهم وعلى قضاء حوائجهم وإعانتهم والمشي في جنائزهم والصلاة عليهم.
وفيه كذلك تحفيز المسلم إلى اجتناب الشرك، وابتغاء التوحيد، بالإخلاص لله تعالى، إذ أن اشتراط عدم الإشراك في الأربعين مصلي دليل على فساد الشرك، وأن صاحبه مبغوض عند ربه. غير مستجاب له، ولا شفاعة له.
وفيه كذلك ما يدفع المرء إلى تربية نفسه على اجتناب الشرك، وتحقيق التوحيد، لمنزلته العظيمة التي يحصل عليها الموحد، حيث يقبل الله تعالى شفاعتهم فيمن صلوا عليه من المسلمين.
وفيه ما تستشعره النفس من أن الله عظيم كريم، فيعطي بالعمل الصحيح القليل الأجر العظيم، مما يستلزم محبة هذا الكريم العظيم الذي أكرم عبده وقبل شفاعته، وهو عبد من عبيده، فاللهم لك المنة ولك العظمة، أنت الكريم فأجزلت، وأنت الواحد الأحد الذي لم يلد ولم يولد، ولا يستحق العبادة إلا أنت وحدك لا شريك لك. واللهم احفظ لنا التوحيد وأمتنا على التوحيد وشفعنا وشفع فينا. والحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.