إذا اجتمعت الرحمة والحياء في قلب الإنسان أحدثت في سلوكه قدرا عظيما من الأفعال والأقوال الرفيعة، كصنيع هذا الغلام .
كان هناك غلام أسود يحمل رغيفا, وأمامه كلب , فكان هذا الغلام يأكل لقمة ويطعم الكلب لقمة , حتى شاطره الرغيف الذي كان معه.
فعجيب لهذا ( المولى ) الأسود الجائع الكريم، الذي يشاطر الكلب رغيفه الذي يسد به رمقه , ولم يكتف بأن يرمي له ربع الرغيف أو شطرا منه , ولكنه يتقاسمه مع الكلب , لقمة لقمه .
ثم يأتي موقفٌ عظيم من رجل عظيم، قال عنه الرسول صلى الله عليه وسلم ( إن ابني هذا سيد، ولعل الله أن يصلح به بين فئتين من المسلمين) إنه الحسن بن علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنهما. فيسأل الحسنُ الغلامَ الأسودَ : ما حملك أن تشاطر الكلب رغيفك ؟ فأجابه الغلام قائلا : استحت عيناي من عينية أن أغابنه .
فالذي دفع الغلام لذلك الصنيع هو الحياء كما يقول (استحت عيناي من عينيه أن أغابنه ) فيأكل والكلب ينظر إليه في غبن من أمره. وفعلا كما قال صلى الله عليه وسلم ( الحياء كله خير ) فهو الدافع للرفق والجود والبذل والشجاعة والسخاء , بل هو مقياس تربوي ليعرف المرء مقدار تربية الحياء في مفردات أخلاقة , فهناك من يستأثر بطعامه وماله عن والديه , وهنالك من يستأثر به عن زوجته , أو عن أبنائه , أو عن ذوي الحاجات .
ويقول صلى الله عليه وسلم ( في كل كبد رطبه صدقة ) فكيف إذا كانت تلك الكبد إنسانا , وكيف إذا كان مسلما , وكيف إذا كان يتيما , وكيف إذا كانت أرملة .
فيقول له الحسن : لمن أنت ؟ فيقول أنا لأبان بن عثمان , ثم يسأله وهذا الحائط ( أي البستان ) لمن ؟ فيقول : هو أيضا لأبان بن عثمان ،
إنه تساؤل استنطقه هذا الموقف الذي لن يمر بسهولة أمام الحسن رضي الله تعالى عنه، حيث اتبع هذا التساؤل بطلب ألزم به الغلام أن يستجيب له, حيث استحلفه بالله تعالى، فقال : أقسمت عليك أن لا تقوم حتى أعود.
فمر الحسن على أبان بن عثمان، واشترى منه الحائط والغلام .
فهل اشتراهما , ليستثمر هذا الغلام الكريم في هذا الحائط ( البستان ) أو لأمر آخر , هو أعظم وأنبل من ذلك .
فلقد عاد الحسن إلى هذا الغلام , وقال له : لقد اشتريت البستان واشتريتك . فما كان من الغلام إلا أن قام لسيده الجديد. فقال : السمع والطاعة لله ولرسول صلى الله عليه وسلم و لك يا سيدي .
وهنا لم يقل الغلام أتأكد من سيدي الأول , وذلك لمعرفته بالحسن استجاب له فورا , وهذا دليل على ما اشتهر به أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من الصدق الذي ينتفي به الكذب والشك والريبة فيهم جميعا، فرضي الله تعالى عنهم .
وهاهي التربية النبوية تنعكس على الحسن في موقفه الذي يتلألأ بالجود والكرم . فيقول لهذا الغلام : أنت حر لوجه الله تعالى , ثم يزيد في عطائه فيقول : وهذا الحائط ( البستان ) هبة مني لك .
وها هي صدقة ذلك الغلام يربيها الله تعالى في ساعته و يكافؤه مكافأة عظيمة. كل شطر منها يملأ نفسه فرحا وسرورا عظيما .
فأي تربية أعظم من التربية النبوية التي نشأ فيها الحسن ليعطي هذا الدرس , وهذه المعالجة الخلقية الكريمة مع الغلام الذي تربى في ظلال منهج النبي محمد صلى الله عليه وسلم، ليقاسم الكلب رغيفه الذي يملكه . فحقا إنها التربية النبوية العظيمة التي رحم الله تعالى بها الأمة في طباعهم وسلوكهم، حتى أصبحت مثلا يتأسى بها التابعون والسائرون على هدى المصطفى صلى الله عليه وسلم .