ثانياً: مذاكرة العلم وتدوينه:
إن العلم عزيز وشريف ، ولا يستطيع الإنسان الحصول عليه إلا بعد جد ومجاهدة ، وصبر ومعاناة يقول يحيى بن أبي كثير : ” لا يستطاع العلم براحة الجسد ” لذلك ترى في سير المعلمين السابقين كما ذكـر ذلك عنهم الحـافظ الذهبي – رحمه الله – في كتابه ( سير أعلام النبلاء ) الحرص الواضح على مراجعة العلم وتقييده بالكتابة ؛ لئلا ينسى العلم الذي تعبوا في تحصيله، وبذلوا الكثير في سـبيل الوصول إليه ، يقول الزهري : ” إنما يذهب العـلم النسيان وترك المذاكرة ” فترك المراجعة والمذاكرة من أعظم أسباب ذهاب العلم ، يقول الحسن البصري : ” لولا النسيان كان العلم كثيراً ” أما مع المراجعة المستمرة للمعلومات ، ومحاولة استحضارها دائماً فإنه يبقى العلم ويثبت ؛ لذا فقد كان الزهري يبتغي العلم من عروة بن الزبير وغيره ، فيأتي جارية له وهي نائمة ، فيوقظها ويقول لها : حدثني فلان بكذا ، وحدثني فلان بكذا ، فتقول : مالي ولهذا ؟ فيقول : قد علمت أنك لا تنتفعي به ، ولكن سمعت الآن فأردت أن أستذكره “.
كما أن من أعظم أسباب بقاء العلم تدوينه وكتابته ، يقول الزهري مبيناً ذلك :
” لولا أن زيد ابن ثابت كتب الفرائض لرأيت أنها ستذهب من الناس “، وكان سعيد بن جبير يحضر عند ابن عباس فيكتب ما يسمعه منه ؛ لئلا يفوته شيء ، ويعبّر عن ذلك بقوله : ” ربما أتيت ابن عباس فكتبت في صحيفتي حتى أملأها ، وكتبت في نعلي حتى أملأها ، وكتبت في كفي “، وكان الزهري يطوف على العلماء ومعه الصحف والألواح يكتب كلما سمع ، ولما سئل ابن المبارك عن كتابة العلم قال : ” لولا الكتاب ما حفظنا”، ويبين يحيى ابن معين وهو من الحفاظ الكبار أثر الكتابة في الحفظ فيقول : ” لو لم نكتب الحديث خمسين مرة ما عرفناه “؛ ولهذه الأهمية ألف الخطيب البغدادي كتابه ” تقييد العلم ” حيث قال في مقدمته: ” إن الله سبحانه جعل للعلوم محلين : أحدهما القلوب ، والآخر الكتب المدونة . . . ومن عجز عن الحفظ قلبه ، فخط علمه وكتبه ، كان ذلك تقييداً منه له ، إذ كتابه عنده آمن من قلبه ، لما يعرض للقلوب من النسيان، ويتقسم الأفكار من طوارق الحدثان ” .
ثالثاً: إتقان العلم وتخصصه:
إن مما دعت إليه التربية الإسلامية التخصص في نوع من أنواع العلوم التي يحـتاجها الناس ، كلٌّ في الفن الذي يميل إليه ، إذ أن لكل واحد من الناس قدراته ومؤهلاته التي تعينه على بلوغ ما يصبو إليه في ذلك الفن ، وقد بدأت الدعوة إلى التخصص المعرفي منذ عهد النبوة ، فكان صحابة رسول الله r يتفاوتون فيما بينهم تفاوتاً عظيماً ، فبرّز كل واحد منهم في الفن الذي يحسنه ، وقد أشار النبي r إلى شيء من هذا بقوله : ” أرحم أمتي بأمتي أبو بكر ، وأشدهم في أمر الله عمر ، وأصدقهم حياء عثمان ، وأقرؤهم لكتاب الله أُبيّ بن كعب ، وأفرضهم زيد بن ثابت ، وأعلمهم بالحلال والحرام معاذ بن جبل ، ألا وإن لكل أمة أمين ، وإن أمين هذه الأمة أبو عبيده بن الجراح ” كما كان الصحابة – رضي الله عنهم – يدركون هذا فيما بينهم ، فهذا عمر – رضي الله عنه – يقول : ” أقضـانا علي ، وأقرؤنا أُبي “، ويقـول : ” من أراد الفقه فليأت معاذ بن جبل “.
وكان خالد بن الوليد – رضي الله عنه – وهو الذي تخصص في القيادة الجهادية والعسكرية يقول : ” منعني الجهاد كثيراً من القراءة ” كما تخصص حسان بن ثابت – رضي الله عنه – في الشعر والمنافحة عن رسول الله r ، وتخصص أبو هريرة – رضي الله عنه – في حفظ حديث رسول الله r ، وتفرغ لذلك حتى صار يضرب به المثل في الحفظ، فإنه حضر مرة إلى مروان بن الحكم فجعل يسأله ، وكاتبه خلف السرير يكتب ما يقول أبو هريرة ، حتى إذا كان رأس الحول دعـاه مروان فأقعد كاتبه من وراء حجاب، فجعل يسأله عن ذلك الكتاب ، فما زاد ولا نقص ، ولا قدم ولا أخر ، يقول الذهبي معلقاً : ” هكذا فليكن الحفظ ” ثم ما زال التخصص
العلمي معمولاً به في العصور اللاحقة بعد ذلك ، فقد كان الزهري يجالس عبدالله
ابن ثعلبة يتعلم منه النسب ، فسأله عن شيء من الفقه ، فقال له : إن كنت تريد هذا فعليك بسعيد بن المسيب ” ، ولما مر ابن عمر بالشعبي وهو يقرأ المغازي قال : كأن هذا شاهد معنا ولهو أحفظ لها مني وأعلم “وقال قتادة : ” كان أعلم التابعين أربعة : كان عطاء أعلمهم بالمناسك ، وكان سعيد بن جبير أعلمهم بالتفسير ، وكان عكرمة أعلمهم بسيرة النبي r ، وكان الحسن أعلمهم بالحلال والحرام “بل بلغ من إتقان عكرمة لعلم المغازي النبوية أنه إذا سمـعه إنسان يحـكي المغازي قال : كأنه مشرف عليهم يراهم ” وكان علي بن المديني علماً في الناس في معرفة الحديث والعلل .
يقول الذهبي – رحمه الله – في كتابه ( سير أعلام النبلاء ) : ” وما زال في كل وقت يكون العالم إماماً في فن مقصراً في فنون ” فإتقان المعلم للفن الذي يدرّسه ، ومعرفته بتفصيلاته ودقائقه ، وإحاطته بكل ما يتعلق به يساعده على تقديم معلوماته للطلاب بكل سهولة ويسر ، ويعينه على شرح مفرداته ، وإيضاح مسائله بالأسلوب المناسب لعقليات طلابه ، بخلاف المعلم الذي لم يتمكن من مادته العلمية فإنه يعسر عليه جداً إيصال المعلومة إلى طلابه ؛ لأن فاقد الشيء لا يعطيه.
ويجدر التنبيه هنا إلى أن ضرورة التخصص المعرفي ، في فن من فنون العلم لا ينافي أن يكون المعلم على اطلاع واسع في سائر الفنون وهو ما تبينه النقطة التالية :