إنّ من أبرز مظاهر التّآلف الاجتماعيّ في العهد النبوي,التّعاون على البرِّ والمواساة بين المؤمنين, وقد كان بين الصحابة رضي الله عنهم نوع من التكافل والتناصر والمواساة ما يُضرب به المثل امتثالا لقول الله تعالى: (وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان، واتقوى الله إن الله شديد العقاب)
وقد مدح الله عزّ وجلّ الأنصار رضي الله عنهم بقوله( والذين تبوءوا الدار والإيمان من قبلهم يحبون من هاجر إليهم ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة، ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون) وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قدم عبد الرحمن بن عوف فآخى النبيّ صلى الله عليه وسلم بينه وبين سعد بن الربيع, فعرض عليه أن يناصفه أهله وماله, فقال عبد الرحمن: بارك الله لك في أهلك ومالك.
وعن إبراهيم بن سعد عن أبيه عن جدّه قال: لمّا قدموا المدينة آخى رسول الله صلى الله عليه وسلم بين عبد الرحمن بن عوف وسعد بن الربيع, فقال سعد بن الربيع, لعبد الرحمن بن عوف: إنّي أكثر الأنصار مالاً, فأقسم مالي نصفين, ولي امرأتان فانظر أعجبهما إليك فسمها لي فأطلقها, فإذا انقضت عدّتها فتزوجها, قال بارك الله لك في أهلك ومالك, أين سوقكم؟ فدلّوه على سوق بني قينقاع فما انقلب إلاّ ومعه فضل من أقط وسمن, ثمّ تابع الغدو يوما وبه أثر الصفرة فقال النبّيّ صلى الله عليه وسلم : (مَهْيَمْ) قال تزوجت. قال كم سقت إليها. قال نواة من ذهب أو وزن نواة من ذهب.. شكّ إبراهيم.
فهذا الحديث يدلّ على قدر وعظم البرّ والمواساة والإيثار بين المهاجرين والأنصار.
ومن مظاهر البرّ والمواساة بينهم كذلك, موقف الصحابي الجليل الذي آثر ضيف رسول الله صلى الله عليه وسلم بطعامه وطعام أولاده؛ فعن أبي هريرة رضي الله عنه أنّ رجلا أتى النبي صلى الله عليه وسلم فبعث إلى نسائه فقلن: ما معنا إلا الماء. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (من يضم أو يضيف هذا), فقال رجل من الأنصار: أنا, فانطلق به إلى امرأته, فقال أكرمي ضيف رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: ما عندنا إلا قوت صبياني فقال: هيّئي طعامك, وأصبحي سراجك ونوِّمي صبيانك إذا أرادوا عشاء. فهيّأت طعامها, وأصبحت سراجها ونومت صبيانها ثمّ قامت كأنها تصلح سراجها فأطفأته, فجعلا يريانه أنّهما يأكلان فباتا طاويين, فلما أصبح غدا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: (ضحك الله الليلة أو عجب من فعالكما) فأنزل الله تعالى: ( ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة، ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون) يستفاد من هذا الحديث, بيان أهمية تربية النشء على الزهد في الدنيا, وأن الغاية والهدف هو الآخرة؛ وبيان ما هو عليه صلى الله عليه وسلم من شظف العيش, وقلّة ذات اليد, مع أنّه عليه الصلاة والسلام أكرم الخلق على الله, فلو كانت الدنيا تساوي عند الله شيئا؛ لكان أبرّ الناس بها وأحقهم رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ويستفاد من الحديث كذلك حث المُرَبُّين والأئمة والدعاة على تربية الأجيال على الإقتداء بصحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم في البرّ والمواساة لإخوانهم المسلمين.