لا تنتهي مهمَّة الوالدين بالإنجاب ، بل يتبع ذلك مشاقّ عديدة، ومسؤوليَّات متلاحقة ؛
فالأولاد في المهد محتاجون إلى عنايةٍ خاصَّةٍ وملاحظةٍ دائمةٍ .
ثمّ إذا ما تُرِكُوا إلى عرصة الدار احتاجوا إلى رعايةٍ من نوعٍ جديدٍ، ومتابعة دؤوب؛ لكونهم يُقابلون الحياة –لأول مرة-دون درعٍ أو سلاح.
ثمّ تأتي مرحلة التعليم والتربية وما أشقّها من مرحلة ، وما أكثر مسؤوليَّة الآباء فيها .
وهكذا يمضي الأبناء في طريقهم حتى يصلوا إلى مرحلة تحمُّل المسؤوليَّة .
ولكن ! مخطئٌ من ظنّ أنّ اهتمام الآباء يقف عند هذا الحدّ ؛ إنَّهم يُلاحقون أبناءهم حيث كانوا ؛ في سفرهم وإقامتهم ؛ في قربهم وبُعدهم ؛ في غناهم وفقرهم ، ولا يتردّدون في مشاركة أبنائهم ولو بشيءٍ يسير دون أن ينتظروا جزاءً أو شكوراً .
فكان من الطبيعي أن يُوصي الإسلام بالآباء، ويُحذِّر من عقوقهم؛ حتى إنَّ الله عز وجل قرن الإحسان إلى الوالدين بعبادته فقال: ( وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحسانا) [الإسراء: 23]، وقال : (واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا وبالوالدين إحسانا) [النساء: 36] ، ووصّى بهما فقال : ووصينا الإنسان بوالديه إحسانا حملته أمه وهنا على وهن وفصاله في عامين أن اشكر لى ولوالديك إلى المصير [لقمان: 14] .
وكذا وصَّى بهما رسوله الكريم صلى الله عليه وسلم ، وجعل عقوقهما من أكبر الكبائر، فقد روى البخاري في صحيحه ، وغيرُه ، من حديث عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي بَكْرَةَ عَنْ أَبِيهِ رضي الله عنه قَالَ : قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم : « أَلاَ أُنَبِّئُكُمْ بِأَكْبَرِ الْكَبَائِرِ » . ثَلاَثًا . قَالُوا بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ . قَالَ « الإِشْرَاكُ بِاللَّهِ ، وَعُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ ». وَجَلَسَ وَكَانَ مُتَّكِئًا، فَقَالَ: « أَلاَ وَقَوْلُ الزُّورِ » . قَالَ فَمَا زَالَ يُكَرِّرُهَا حَتَّى قُلْنَا لَيْتَهُ سَكَتَ . الحديث.
وقد جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم برَّ الوالدين من أحبِّ الأعمال إلى الله . روى البخاري في صحيحه عن عبدالله بن عمر رضي الله عنه ، قَالَ : سَأَلْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم : أَيُّ الْعَمَلِ أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ ؟ قَالَ : « الصَّلاَةُ عَلَى وَقْتِهَا » . قلت: ثُمَّ أَيُّ؟ قَالَ: «ثُمَّ بِرُّ الْوَالِدَيْنِ ». قلت : ثُمَّ أَيّ ؟ قَالَ : « الْجِهَادُ فِى سَبِيلِ اللَّهِ » .
ولِعِظَمِ المهمَّة الملقاة على عاتق الأمّ ، كرَّر الإسلام الوصيةَ بالإحسان إليها ؛ فهي التي حملت ولدَها وهناً على وهن، وغذّته بلبانها، وتعهّدته برعايتها حتى بلغ أشدّه ؛ سهرت لينام، وتعبت ليستريح، وتحمّلت من ألوان الشقاء الكثير كي يحيا ويسـعد .
من أجل هذا أمر الرسول صلى الله عليه وسلم ببرِّها، حين أوصى بها أحدَ أصحابه قائلاً: “اِلْزَمْهَا، فإنَّ الجنَّةَ تَحْتَ أَقْدَامِهَا”، “اِلْزَمْ رِجْلَهَا، فَثَمَّ الجنَّة” .
فلزومُ طاعة الأمَّهات–في غير معصية الله- سببٌ لدخول الجنَّة، ونيلِ المغفرة والثواب من الله عز وجل .
وقد جعل الإسلام حقَّ الأم على الأبناء ثلاثة أضعاف حقِّ أبيهم ؛ لأنّ الأمّ تُعاني بحمل الولد وولادته وإرضاعه، والقيام على أمره وتربيته أكثر ممَّا يُعانيه الأب.
روى الإمامان البخاري ومسلم في صحيحيهما عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ س ، قَالَ : جَاءَ رَجُلٌ إِلَى رَسُولِ اللَّه صلى الله عليه وسلم ، فَقَالَ : مَنْ أَحَقُّ النَّاسِ بِحُسْنِ صَحَابَتِي ؟ قَالَ : « أُمُّكَ ». قَالَ : ثُمَّ مَنْ ؟ قَالَ : « ثُمَّ أُمُّكَ ». قَالَ: ثُمَّ مَنْ ؟ قَالَ: « ثُمَّ أُمُّكَ ». قَالَ: ثُمَّ مَنْ ؟ قَالَ : « ثُمَّ أَبُوكَ » .
وتكرار هذه الوصية بالأم لعظم مسؤوليتها –كما أسلفت-، ولكونها ضعيفة ؛ قد يتجرّأ عليها أبناؤها لما يرون من ظواهر عطفها ورحمتها وحنانها، أو يتهاونون في أداء حقِّهـا الذي أوجبه الله عليهم . من أجل ذا خصَّها الإسلام بمزيدٍ من التذكير والتحذير .
ومهما قدَّم الإنسان لوالديه –ولا ســيّما أمّه- ، فإنَّه لا يُوَفِّيهم إلا شيئاً يسيراً ممَّا قدَّما .
رُويَ أنَّ رجلاً جاء إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسولَ الله إنِّي حملتُ أمي على عنقي فرسخين في رَمْضاء شديدة ، لو أُلقيَت فيها بضعة لحمٍ لنضَجَت . فهل أدَّيتُ شُكرَها ؟ فقال : “لعلّه أن يكون لطلقةٍ واحدةٍ”.
ورُوي –أيضاً- أنَّ رجلاً قال : يا رسول الله : إنَّ أمي كَبُرَت حتى صِرْتُ أغسِلُ ذلك منها ، فهل جَزَيْتُهَا ؟ قال : “لا ، ولا بزَفْرَةٍ واحدةٍ” .
وأخرج البيهقي في شعب الإيمان أنّ عليًّا وعمر رضي الله عنهما خرجا من الطواف ، فإذا هما بأعرابيّ معه أمّ له يحملها على ظهره ، وهو يرتجز ويقول :
أنا مطيتهـا لا أنفر وإذا الركــاب ذعرت لا أذعــر
لبيك اللهم لبيـك بما حملتني ورضّعـتني أكـثــــر
فقال علي رضي الله عنه : مُرَّ يا أبا حفص ، ادخل بنا الطواف ، لعلَّ الرحمة تنزل فتعمَّنا . قال : فدخل يطوف بها وهو يقول :
أنا مطيتهـا لا أنفر وإذا الركاب ذعرت لا أذعـــر
لبيـك اللهم لبيـك وما حملتني وأرضعتني أكـثـــر
وعليّ رضي الله عنه يجيبه :
إن تبرها فالله أشــكر يجزيك بالقليل الأكـثـــر
وأخرج البيهقي في شعب الإيمان –أيضًا- عن سعيد بن أبي بردة عن أبيه أنَّ رجلا من أهل اليمن حمل أمه على عنقه فجعل يطوف بها حول البيت وهو يقول :
إني لها بعيرها المدلل :::: إذا ذعرت ركابها لم أذعر
وما حملتني أكثر
ثم قال : أتراني جزيتها ؟ قال ابن عمر : لا ، ولا بزفرة .
انتهى الجزء الأول