استوقفني نص تراثي كنت استشهدت به أثناء إعدادي لرسالة الماجستير عن الوصايا التربوية في الأندلس و المغرب ، جاء فيه أن ابن أبي أصيبعة روى عن القاضي أبي مروان الباجي ،قال: سألت القاضي أبا بكر بن أبي الحسن الزهري عن سبب تعلمه صناعة الطب فقال لي : إني كنت كثير اللعب بالشطرنج، ولم يوجد من يلعب مثلي به في إشبيلية إلا القليل، فكانوا يقولون: أبوبكر الزهري الشطرنجي، فكان إذا بلغني ذلك أغتاظ منه، فقلت في نفسي لابد أن أشتغل عن هذا بشيءٍ غيرِه من العلم لأُنْعت به، ويزول عني وصف الشطرنج … فعدلت إلى أبي مروان عبد الملك بن زهر، و اشتغلت بصناعة الطب، وكنت أجلس عنده وأكتب لمن جاء مستوصفا من المرض الرقاعَ، واشتهرت بعد ذلك بالطب، وزال عني ما كنت أكره الوصف به.
و الذي يثير في هذا النص هو مدى تأثير البيئة الاجتماعية على شخصية الرجل ، و كذلك إرادته في الانسجام معها و التكيف وفقها ، فالأندلس في ذلك الوقت كانت أرض عِلم و جِدّ حتى قال المقري عنها و عن أهلها : (( وأما حال أهل الأندلس في فنون العلم، فتحقيق الإنصاف في شأنهم في هذا الباب أنهم أحرص الناس على التمييز، فالجاهل الذي لم يوفقه الله للعلم يجتهد في أن يتميز بصنعة ويربأ بنفسه أن يرى فارغا عالة على الناس لأن هذا عندهم في نهاية القبح، والعالم عندهم معظّم من الخاصة و العامة يشار إليه، ويحال عليه، وينبه إلى قدره وذكره عند الناس ، ويكرم في جوار أو ابتياع، أو ما أشبه ذلك )).
وهذا يؤكد حقيقة اجتماعية و تربوية : أن للبيئة تأثيرا كبيرا على اتجاهات الأفراد و ميولهم ، وبقدر ما يتوفر لدى الأمة من بيئة ثقافية و اجتماعية وعلمية فإنه يتحقق لها مجتمع راق يسمو بأفراده عن السفاسف و الكسل والدعة و الخمول ، وهذا ما نشاهده – مع الأسف -في بلد صناعي متقدم كاليابان حيث يعظم فيه العلم و يعطى للتعليم الأولوية في سلّم الاهتمام ، بل يُعد مقياسا و معيارا للفرد الناجح و الأسرة الناجحة ، ولقد ساعد على ذلك تضافر الجهود التربوية و الثقافية و الإعلامية و السياسية و الاقتصادية مما أنتج جيلا يتحدى دولا سبقته في مجال الصناعة و التقنية. و كان الأولى أن يحدث هذا في البلدان الإسلامية التي يعظم فيها دينها العلم و يرفع من شأن صاحبه فهو عامل قوي في إيجاد البيئة العلمية و التربوية السليمة . لكن تباين الاتجاهات الإعلامية و التربوية و الاجتماعية و تناقضها أضعف البيئة السليمة التي ترفع من فاعلية الفرد و جديته .
ولذلك هَوتْ بيئة الأندلس حين أصبحت تهتم بغير العلم من اللهو و غيره فسقطت ضعيفة في يد العدو ، و أصبحت لقمة سائغة له ، فهل يا ترى نعي الدرس؟
( نشر في مجلة الشمال التربوي منطقة عرعر – العدد الثالث )