والإسلام قد أمر بمصاحبة الوالدين بالمعروف ؛ إذ الاختلاف في وجهات النظر أمرٌ قد يحدث بين الآباء والأبناء. والآباء عندما يأمرون، وينهون، ويُعاتبون ، فإنَّما يدفعهم إلى ذلك رغبتهم في الوصول بأبنائهم إلى أعلى مراتب الحياة .
فعلى الأبناء أن يُحسنوا مصاحبة آبائهم، ولتكن مجالستهم إيَّاهم بأدبٍ وتوقير، وعليهم أن لا يرفعوا أصواتهم في وجوههم، وأن لا تكون مناقشتهم بعنف وشدّة ، بل بتلطُّفٍ واسترضاء . وعلى الآباء أن يسمحوا لأبنائهم بالكلام في حدود الأخلاق والوقار ، على أن لا يتجاوزوا هذه الحدود .
وما الذي يُضير الأبناء لو نزلوا عند رغبة آبائهم، وحسموا الخلاف لصالحهم؛ لكثرة خبرتهم، وعِظم حكمتهم، وشدّة فهمهم للحياة ؟
هذا إذا لم يكن الخلافُ في العقيدة . أمَّا إن كان فيها فلا يُطاع الآباء في معصية الخالق سبحانه وتعالى ؛ فلو أُمر الولد بالسرقة ، أو حُرِّضت الفتاة على سلوك سبيلٍ مخالفٍ لسبيل الحشمة والعفاف ، أو نُهِيَ الابن عن أداء فرضٍ ، وَجَبَ على الأبناء أن يقفوا في وجه المعصية، مع الدفع بالحسنى ، والمصاحبة بالمعروف ، امتثالاً لقول ربِّنا عزوجل (وان جاهداك على أن تشرك بي ماليس لك به علم فلا تطعهما وصاحبهما في الدنيا معروفا) [لقمان : 15] .
سُئل الإمام الأوزاعيّ رحمه الله عن الرجل تمنعه أمُّه عن الخروج إلى الجماعة والجمعة ، فقال : “ليطعْ ربَّه ، وليَعْصِ أُمَّه في ذلك”.
وروى الإمام البخاري عن الحسن البصري رحمه الله أنَّه قال : “إن مَنَعَتْهُ أمُّه عن العِشاء في الجماعة شفقةً عليه ، فلا يُطعْهَا”.
ولا يمنع كفر الآباء من حُسن مصاحبتهم ؛ فقد روى الإمام البخاري في صحيحه أنَّ أسماء بنت أبي بكر أتَتْها أُمُّها المشركة ، فسألت النبيَّ r : أَصِلُهَا ؟ فقال: “نعم”، فأنزل الله تعالى فيها:( لاينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا اليهم إن الله لايحب المقسطين* إنما ينهاكم الله عن الذين قاتلوكم في الدين وأخرجوكم من دياركم وظاهرو على إخراجكم أن تولوهم ومن يتولهم فأولئك هم الظلمون) [الممتحنة: 8-9] .
فالله تعالى أوصى الإنسان بوالديه ، وأمره بالعطف عليهما ، والإحسان إليهما وألزمه طاعتهما لما تحمَّلا في سبيله من المتاعب والمصاعب . ومع كلّ هذا حذَّره من طاعتهما في الشرك والعصيان ؛ لأنَّه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق .
وليس الأمر قاصراً على الإحسان ، والمصاحبة بالمعروف ، وعدم العقوق،بل يجب على الأبناء أن يكونوا على مستوى لائق من الأدب مع النَّاس؛ فالمجتمع يرى فيهم امتدادًا لوالديهم، ونبتة تولّوْا غرسها، وفسيلةً زرعوها وتعاهدوها. فكان من الواجب أن يُعطوا صورة كريمةً عن أولئك الغارسين ؛ فلا يتطاولوا على الغير ؛ إذ التطاول يجرّ إلى الانتقام، ويُسبِّب العدوان الذي قد يطال نفوسهم ووالديهم بالشتم والسبّ .
وهذا ما حذَّر منه نبيُّنا صلى الله عليه وسلم بقوله في الحديث الذي أخرجه البخاري في صحيحه، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو – رضي الله عنهما – قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : « إِنَّ مِنْ أَكْبَرِ الْكَبَائِرِ أَنْ يَلْعَنَ الرَّجُلُ وَالِدَيْهِ » . قِيلَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ! وَكَيْفَ يَلْعَنُ الرَّجُلُ وَالِدَيْهِ ؟ قَالَ : « يَسُبُّ الرَّجُلُ أَبَا الرَّجُلِ ، فَيَسُبُّ أَبَاهُ ، وَيَسُبُّ أَمَّهُ » .
وعلى الأبناء أن يتعهَّدوا آباءهم بالرعاية عند الكبر ؛ لأنّ ذلك من أسباب دخول الجنَّة ؛ كما أخبر الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم بقــولـه : « رَغِمَ أَنْفُهُ ثُمَّ رَغِمَ أَنْفُهُ ثُمَّ رَغِمَ أَنْفُهُ ». قِيلَ: مَنْ يَا رَسُولَ اللَّهِ ؟ قَالَ : « مَنْ أَدْرَكَ وَالِدَيْهِ عِنْدَ الْكِبَرِ أَحَدَهُمَا أَوْ كِلَيْهِمَا ثُمَّ لَمْ يَدْخُلِ الْجَنَّةَ » .
وبرُّهما عند الكبر، أو أحدِهما سببٌ لنيل الثواب والأجر الكثير؛ فقد أتى رجلٌ النبيَّ صلى الله عليه وسلم فقال: إنِّي أشتهي الجهاد، ولا أقـدِر عليه ؟ قال : “هل بقيَ من والدَيك أحدٌ ؟ ” . قال : أمِّي. قال : “قابل اللهَ في برِّها، فإذا فعلتَ ذلك فأنت حاجٌّ ، ومعتمرٌ، ومجاهدٌ”.
ولا يتوقَّف البرّ برحيل الأبوين ، بل يُطالَب الأبناء عندها بمسؤوليَّة جديدة، تتضمَّن الدعاء لهما، وطلب الرحمة والمغفرة لهما ، وإنفاذ عهدهما ، وأداء ديونهما ، وإكرام صديقهما ، وقضاء كافَّة الحقوق التي عليهما للنَّاس ، وصلة الرحم التي لا تُوصل إلاَّ بهما .
روى مسلم في صحيحه أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : “إنَّ أبرّ البِرِّ صلةُ الولدِ أهلَ وُدِّ أبيه”.
وروى أبو داود في سننه عَنْ أَبِي أُسَيْدٍ مَالِكِ بْنِ رَبِيعَةَ السَّاعِدِيِّ قَالَ : بَيْنَا نَحْنُ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ ف ، إِذ جَاءَهُ رَجُلٌ مِنْ بَنِي سَلِمَةَ ، فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ! هَلْ بَقِيَ مِنْ بِرِّ أَبَوَيَّ شَيْءٌ أَبَرُّهُمَا بِهِ بَعْدَ مَوْتِهِمَا ؟ قَالَ : « نَعَمِ الصَّـلاَةُ عَلَيْهِمَا ، وَالاِسْـتِغْفَارُ لَهُمَا ، وَإِنْفَاذُ عَهْـدِهِـمَـــا مِـنْ بَعْدِهِمَا ، وَصِـلَةُ الرَّحِمِ الَّتِي لاَ تُوصَـلُ إِلاَّ بِهِمَا ، وَإِكْــرَامُ صَـدِيقِهِمَا ».
وهذا الصنيع يُعدّ صلةً للوالد في قبره. فعن بُردة قال : قدمتُ المدينةَ، فأتاني عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، فقال: أتدري لم أتيتُك ؟ قلت : لا . قال : سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول :”من أحبَّ أن يصلَ أباه في قبره، فليصِلْ إخوانَ أبيهِ مِنْ بَعْدِهِ”، وإنَّه كان بين عمرَ أبي، وبين أبيك إخاءٌ وودٌّ، فأحببتُ أن أصلَ ذلك”.
وليس هذا فحسب ، فهناك الكثير من الحقوق التي لم أُوردها .
وما أوردته قليلٌ من كثيرٍ منها