الطلاق بالمعروف من المعاشرة بالمعروف :
والطلاق المباح أبغض الحلال عند الله . وهو إيذاءٌ للمرأة ، وسلطةٌ بيد الرجل ؛ إذ العصمة بيده. ومن الواجب عليه أن يُحسن استخدام هذه السُّلطة ، فلا يستخدمها إلا إذا ارتكبت الزوجة جناية موجبة لها ؛ لأنّ الطـلاق يتنـافى مع واجب العشـرة بالمعروف التي أُمر بها الرجل –إن كانت زوجه مواتيةً له-،كما أنَّه يُعرِّض الأولاد للمتاعب، وربّما العقد النفسيَّة .
والله ﻷ قد أمر الزوجَ أن يُعاشِرَ زوجه ويمسكها بالمعروف ، أو يُفارقها إن تعذّرت الحياة بالمعروف . قال تعالى ( وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن فأمسكوهن بمعروف أو سرحوهن بمعروف ولا تمسكوهن ضراراً لتعتدوا ومن يفعل ذلك فقد ظلم نفسه ) [البقرة : من الآية 231] ؛ أي من يُمسكهنّ من جديدٍ بمراجعتهنّ–بقصد الإضرار بهنّ- لا لرغبة منه في المعاشرة، ولكن حرصًا منه على فوات مصلحتهنّ في زواجٍ جديدٍ ينتظرهنّ، ونحو ذلك ، فقد ظلم نفسه ؛ إذ عرَّضها لسخط الله ، ولعقوبته.
والله ـ قد طالبَ الزوج –كذلك- أن يتريَّث قبل أن يُقدِمَ على الطلاق، وأن يحتكم إلى العقل والمنطق، وأن يُراعيَ المصلحة العامَّة للأسرة.قال تعالى ( يا أيها الذين آمنوا لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرهاً ولا تعضلوهن لتذهبوا ببعض ما آتيتموهمن إلا أن يأتين بفاحشة مبينة وعاشروهن بالمعروف فإن كرهتموهن فعسى أن تكرهوا شيئاً ويجعل الله فيه خيراً كثيراً ) [النساء : 19]. فهي وصيَّة من الربّ جلّ وعلا للأزواج بحسـن معاشرة الزوجات ، وأن يُراجعوا الأمر قبل أن يُقدموا على الفراق – إن أحسّوا ببغض أو كراهية- ؛ إذ مراجعة الأمر وتحليله قد يكشف عن عنصرٍ هامّ في الزوجة المكروهة يَذْهَبُ ببغضها وكراهيتها ، ويُعيد الرغبةَ للزوج من جديد في الإبقاء عليها ، والحرص على مودّتها.
فالإحسانُ إلى المرأة ، ومعاشرتُها بالمعروف ، وغضُّ الطرف عن بعض عيوبها ، ما لم تكن اخلالاً بحقٍّ من حقوق ربِّها عز وجل، أو حقوق رسولها صلى الله عليه وسلم من الأمور المطلوبة . كلُّ ذلك في حدود الصيانة والعفّة والكرامة، والبُعد عن مواطن الفتنة، ومزالق الشرّ.
الغيرة –المعتدلة- من المعاشرة بالمعروف :
وبعضُ الرجال في عصرنا يُسرفون في تدليل المرأة ، وفي إعطائها الحرية في الخروج والدخول ، واستقبال الضيوف . وهو أمرٌ لا يرضى عنه الشرع . والإسلامُ الذي أوصى بالنساء خيراً ، يُعارض مثلَ هذه الفوضى التي تنتهي إلى ما لا يُحمَد عُقباه ، لا سيّما وقد وَصَفَ المؤمنَ صاحبَ القوامة بأنَّه يغار على محارمِه؛ يقول الرسول صلى الله عليه وسلم : “المؤمن يغارُ، واللهُ أشدُّ غَيْراً”
ولمَّا قال سعدُ بن عبادة رضي الله عنه : لو رأيتُ رجلاً مع امرأتي لضربْتُه بالسيفِ غيرَ مُصْفح ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : “أتعجبون من غيرة سعد ؟ لأنا أغيرُ منه ، واللهُ أغيرُ منِّي.”
والغيرة على المرأة ضرورية لحمايتها ، وهي من حقِّها على زوجها ، كي تُصان كرامتها من كلِّ ما يخدشها .
ولقد كانت المرأة العربيَّة قبل الإسلام –رغمَ ما هي عليه من هضمٍ للحقوق-تعتزُّ وتفخر على أخواتها في العالم كلِّه بحماية الرجل لها، ودفاعه عن شرفها ، والثأر لامتهان كرامتها .
ولو لم يكن الزوج كذلك ، لكان ديّوثًا ، ينطبق عليه قولُ رسول الله صلى الله عليه وسلم :” ثلاثةٌ لا يدخلونَ الجنَّةَ أبدًا : الدَّيُّوث، والرجلةُ من النِّساء، ومدمن الخمر” . قالوا : يا رسول الله ! أمَّا مدمن الخمر فقد عرفناه ، فما الديوث ؟ قال : “الذي لا يُبالي من دخل على أهله”. قلنا : فما الرجلة من النساء ؟ قال : “التي تشبَّه بالرجال” .
والغيرةُ المطلوبة ، هي الغيرة المعتدلة ؛ إذ “من الغَيْرَة ما يُحبُّ الله . ومنها ما يكره الله . فأمَّا ما يُحبُّ الله، فالغيرة في الرِّيبة . وأمَّا ما يكره ، فالغيرة في غير ريبةٍ” ؛ كما قال الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم .
والمتأمِّل في هذا الحديث ، يجد أنّ الغيرة المحبوبة هي التي وُجِدت أسبابُها ؛ بأن قامت الأدلَّة عليها . ولذا وَجَبَ التأكُّد أو منع الأسباب التي تدعو إلى الشكّ . أمَّا عند عدم وجود الأسباب ، فإنّ الغيرة تكون مذمومة ، وتكون مِمَّا يُبغضه الله ؛ لأنَّها تُعكِّر صفوَ الحياة ، وتجلب أسباب النزاع والشّقاق ، مِمَّا يُزلزل كيان الأسرة ، ويجعلها عرضةً للقيل والقال ، وربّما كانت سببًا في انهيارها وتمزّق شملها .
لهذا وَجَبَ على الزوج أن يكون معتدلاً في الغيرة ، وأن تكون حياة الزوجين قائمة على الثقة المتبادلة ؛ فليس من حقِّ الرجل أن يُوجِّه إلى أهله التّهم في غير ريبة ، وليس له أن يُبالغَ في التشدّد والتعنّت والتجسّس على البواطن ، قال تعالى ( يا أيها الذين آمنوا اجتنبوا كثيراً من الظن إن بعض الظن إثم ولا تجسسوا ولا يغتب بعضكم بعضاً أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتاً فكرهتموه واتقوا الله إن الله تواب رحيم ) [الحجرات : 12].
ولقد شـدَّد القرآنُ النكيرَ على الذين يرمون المحصنات بغير بيِّنة ، فقال تعالى : ( والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة ولا تقبلوا لهم شهادة أبداً وأولئك هم الفاسقون ) [النور:4] ؛ فوصف صنيعهم بأنَّه فسقٌ، وحكم بجلدهم ثمانين، وعدم قبول شهادتهم . وهذا من إنصاف الشريعة ؛ التي تأمر (( –في جهة- بأصرم ما يكون العقاب لمن يرتكب الزنا وقامت عليه البيِّنة، وتأمر –في الجهة الأخرى- بضرب ثمانين جلدة لمن يرمي غيره بالزنا ، ولا يأتي عليه بأربعة شهود ، حتَّى لا يتجرَّأ على مثله في المستقبل )) .
ولا ريب أنَّ هذا التشريع يسدّ الباب على من يتّخذون من اتهام زوجاتهم غايةً للتخلّص منهنّ بغير حقّ ، وكذلك على أولئك الذين يجعلون منه وسيلةً للانتقام منهنّ باسم الشرف ، لأغراض خسيسةٍ يكتمونها في أنفسهم .
والإسلام الذي شرع الغيرة ، وضع لها الحدود والضوابط ، وشرع الطريقة المثلى لذلك ؛ فمنع الأسباب، وسدّ الأبواب، وأغلق المداخل أولاً، حين أمر المرأة بالحجاب، وطلب منها أن تبتعد عن الاختلاط بالرجال، ومنهم ذوو قرابتها؛ من أبناء العمّ، وأبناء الخال، وأقارب الزوج، وغيرهم. يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم : “إيَّاكم والدخول على النساء” ، فقال رجلٌ من الأنصار : يا رسول الله ، أفرأيتَ الحَمو ؟ قال : “الحَمْوُ الموتُ” .
وليس هذا فحسب ، بل إنَّ محارمُ المرأة، لو أرادوا الدخولَ عليها، فيجب عليهم الاستئذان ؛ فعن عطاء بن يسار أنَّ رجلاً قال للنبيِّ صلى الله عليه وسلم: أأسْتأذن على أُمِّي؟ قال:”نعم” . قال الرجلُ : إنِّي معها في البيت. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “استأذِن عليها”. فقال الرجل: إنِّي خادمُها. فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: “اسْتأذِن عليها. أتُحبُّ أن تراها عُرْيَانةً ؟ ” قال : لا. قال: “فاستأذن عليها” .
إحصان الزوجة من المعاشرة بالمعروف:
وعلينا أن لا ننسى أنّ مهمّة إحصان المرأة تقع على عاتق زوجها؛ فالجماع حقّ من حقوقها ، فعليه أن يوفّيها حقّها بحدود طاقته ؛ فقد أخرج ابن حبّان في صحيحه أنَّ امرأة عثمان بن مظعون رضي الله عنه دخلت على نساء النبيّ صلى الله عليه وسلم ، فرأينها سيئة الهيئة. فقلن: ما لكِ ؟ ما في قريش رجل أغنى من بعلك. قالت: ما لنا فيه شيء؛ أمَّا نهاره فصائم، وأمَّا ليله فقائم. قال: فدخل النبيّ صلى الله عليه وسلم فذكرن ذلك له، فلقيه النبيّ صلى الله عليه وسلم ، فقال:”يا عثمان أما لك فيَّ أسوة ؟” قال : وما ذاك يا رسول الله فداك أبي وأمي؟ قال: “أما أنت فتقوم الليل وتصوم النهار ، وإنَّ لأهلك عليك حقًّا، وإن لجسدك عليك حقًّا. صلِّ ونَمْ، وصمْ وأفطر”. قال: فأتتهم المرأة بعد ذلك كأنَّها عروس، فقيل لها : مَه ؟ قالت : أصابنا ما أصابَ النَّاس .
يقول السيِّد سابق : (( قال ابن حزم : وفَرْضٌ على الرجل أن يُجامع امرأته التي هي زوجته ، وأدنى ذلك مرةً في كلِّ طُهر إن قدر على ذلك، وإلا فهو عاص لله تعالى . بُرهان ذلك قوله تعالى ( ويسئلونك عن المحيض قل هو اذى فاعتزلوا النساء في المحيض ولا تقربوهن حتى يطهرن فإذا تطهرن فأتوهن من حيث أمركم الله إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين ) [البقرة من الآية222]. وذهب جمهور العلماء إلى ما ذهب إليه ابن حزم من الوجوب على الرجل إذا لم يكن له عذر.
ولا يجوز للزوج أن يترك فراش زوجه بلا مراجعة ، فمن حقوقها أن لا تترك كالمعلقة . وبعض الأزواج يعتقدون أنَّ الرجل حرّ في هجر فراش الزوجيَّة، وبلا مراجعة، ناسين ، أو متناسين أنَّ المرأة شقيقة الرجل، تشتهي وتتمنَّى كما يتمنَّى، وأنَّ مسؤوليّة إحصانها تقع على عاتق زوجها . والشريعة الإسلاميَّة قد حدَّدت للذي يهجر فراش الزوجيَّة مدَّة أربعة أشهر على الأكثر ، عليه أن يُباشر زوجه خلالها ، وإلاَّ أُجبِر على تركها والانفصال عنها ، كما قــال مولانا جلّ وعلا : ( للذين يؤلون من نسائهم تربص اربعة أشهر فإن فاؤوا فإن الله غفور رحيم ، وإن عزموا الطلاق فإن الله سميع عليم ) [البقرة : 226-227] . ولقد أمر الفاروق عمر رضي الله عنه بإعادة المجاهدين من مواقع القتال لهذا الغرض . وسببُ ذلك أنَّه سمع امرأة تقول –عندما كان يعسّ ليلاً:
تطاول هــذا الليل واسـودّ جانبه
وأرّقـنـي إذ لا حـبـيب ألاعـبه
فلولا الذي فوق السماوات عرشه
لزعزع من هذا السرير جوانبه
فأصبح عمر، فأرسل إليها، فقال: أنت القائلة كذا وكذا ؟ قالت : نعم. قال : ولِمَ ؟ قالت : زوجي في هذه البعوث . -أي هو في الجهاد- .وذكر الحافظ ابن حجر : أنّ عمر س سأل –بعد هذه الواقعة-: كم تصبر المرأة عن زوجها : تصبر شَهْرًا ؟ فأُجيب : نعم . قال : تصبر شهرين ؟ فقلن : نعم . قال : ثلاثة أشهر ؟ قلن : نعم ، ويقلّ صبرها ؟ قال : أربعة أشهر ؟ قلن : نعم ، ويفنى صبرها . فكتب إلى أمراء الأجناد في رجالٍ غابوا عن نسائهم أربعة أشهر أن يردّوهم .