إن الإنسان اجتماعي بفطرته ولابد له من أن يعيش مع الجماعة, ويتآلف ويتضامن معهم, ولقد اتخذت الشريعة الإسلامية التآلف والتعاون وإصلاح ذات البين أساسا للأخوة الإسلامية, وتقوية الروابط الاجتماعية, ولكن قد توجد بعض المعوقات التي تحول بين المجتمع وبين تطبيقات التآلف والتواد بين أفراده, ومن أبرز تلك المعوقات التي أشار إليها المنهج الإسلامي ونهى عنها ما جاء في قوله تعالى:(يَا أَيُهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْراً مِنْهُم وَلا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْراً مِنْهُنَّ وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلا تَنَابَزُوا بِالألْقَابِ بِئْسَ الاسْمُ الفُسُوقُ بَعْدَ الإيمَانِ وَمَنْ لَّمْ يَتُبْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ).
وهذه المعوقات على النحو التالي:
المعوق الأول : السخرية:
أولا: مفهوم السخرية:
السخرية من سَخِر منه وبه, أي استهزأ.
والسخرية بالناس، احتقارهم والاستهزاء بهم، كما ثبت في الصحيح عن رسول اللهصلى الله عليه وسلم أنه قال: (الكِبْر بطر الحق وغَمْص الناس)، ويروى: (وغمط الناس)، والمراد من ذلك: احتقارهم واستصغارهم.
ثانيا: مضار السخرية الاجتماعية:
إن السخرية تنافي المحبة والأخوة الإسلامية والتآلف بين أفراد المجتمع, كما تعتبر ظلم من المسلم تجاه أخيه المسلم, وإيذاء له وعدوان على كرامته.
ومن مضارها:
أ – أنها تقطع الروابط الاجتماعية القائمة على الأخوة والتواد والتراحم.
ب- أن السخرية تُنْبِت العداوة والبغضاء بين المسلمين.
ج- أنها تولد الرغبة بالانتقام عند المظلوم.
فكلما سبق ذكره من الآثار الوخيمة للسخرية تنافي التآلف, بل هي من المعوقات التي تسد بين المجتمع وبين ائتلاف أفراده وتكاتفهم ومحبة بعضهم البعض.
المعوق الثاني اللمز:
أولا: مفهوم اللمز:
اللَّمْز العَيْب, وأَصْلُه الإشارة بالعين ونحوها وبابه ضرب ونصر وقرئ بهما قولُه تعالى:﴿ومِنْهُم مَن يَلْمُزْك في الصَدَقات﴾. ورَجُل لَمَّازٌ مُشَدَّداً ولُمزَة بوزن هُمَزة أي عَيَّاب.
واللمز في الاصطلاح هو أن يعيب الإنسان أخاه في وجهه بكلام ولو خفي.
ثانيا: مضار اللمز الاجتماعية:
اللمز آفة اجتماعية تورث الأحقاد والأضغان، وتقطع أواصر الأخوة الإيمانية والاجتماعية, وهو ظلم من الإنسان تجاه أخيه الإنسان, وعدوان على حقه عليه.
ومن الأضرار المترتبة على اللمز وآثاره السيئة ما يلي:
أ . أنه يولد الحقد بين أفراد المجتمع.
ب . أن اللمز يولد العداوات وقد يدفع إلى الانتقام بين الناس.
ج . أن ارتكابه يعتبر فسقا, والإصرار عليه وعدم التوبة منه ظلم. قال الله تعالى في ذلك: (وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ), فهذه بعض الآثار السيئة للمز في المجتمع, إضافة إلى عظيم إثمه.
المعوق الثالث : التنابز بالألقاب:
أولا: مفهوم التنابز:
التنابز من النبز, وهو التداعي بالألقاب, وتنابزوا بالألقاب, أي لقّب بعضهم بعضا. والمراد من ذلك الألقاب التي فيها ذم أو تحقير.
والتنابز بالألقاب في الاصطلاح التداعي بها, من نبزه, والنبز اللقب السوء.
ولما قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة وجدهم بألقاب يدعون بها فجعل الرجل يدعو الرجل بلقبه, فقيل يا رسول الله إنهم يكرهون هذا. فنـزلت (ولا تنابزوا بالألقاب), واللقب المنهي عنه هو اللقب السوء, وأما اللقب الذي فيه التنويه بالحسن فلا بأس به, كما قيل لأبي بكر: عتيق, ولعمر: فاروق, ولعثمان: ذو النورين, ولعلي: أبو تراب, ولخالد: سيف الله, ونحو ذلك.
ثانيا: مضار اللمز الاجتماعية:
لما كان التنابز بالألقاب مما يعوّق التآلف والتواد, ومما يؤذي الناس, نهى الله تعالى عنه أشد النهي, وجعله من المحرمات, ووصف فعله بالفسوق, وجعله من الظلم. ومن مضاره على المجتمع ما يلي:
أ . أنه مزيل للألفة والمودة بين المسلمين.
ب. أنه مفسد للعلاقات الاجتماعية, ويولد الأحقاد والشحناء بين أفراد المجتمع.
المعوق الرابع : التجسس:
أولا: مفهوم التجسس:
التجسس: التفتيش عن بواطن الأمور, وأكثر ما يقال في الشر. وقيل الجاسوس الذي يتجسس الأخبار ثم يأتي بها.
والتجسس على الناس هو تتبع عثراتهم وعوراتهم, وتحسس تحركاتهم.
والتجسس: البحث عما ينكتم عنك من عيوب المسلمين وعوراتهم، فنهاهم الله سبحانه عن البحث عن معايب الناس ومثالبهم.
ثانيا: مضار التجسس الاجتماعية:
للتجسس آثار وخيمة على الفرد والمجتمع, وقد نهى الله تعالى عنه أشدّ النهي, لما يترتب عليه من الضرر والفساد الاجتماعي, ومن ضرره ما يلي:
أ . أنه يثير الشحناء والبغضاء والعداوة بين المُتَجَسِّس والمُتَجَسَّس عليه.
ب . أن التجسس يجلب لصاحبه كراهية المجتمع وخوفهم منه, ومن نشر أسرارهم التي حصل عليها سرّاً عن طريق التجسس.
ج . أن التجسس يولّد في المجتمع الأحقاد, ويورث العداوات والبغضاء, إذ يشعر المتجسَّس عليه بأنه مشكوك بأمره غير موثوق به، كما أن المتجسس يكشف عورات الناس, ويتسبب بإشاعة الفاحشة في الذين آمنوا.
المعوق الخامس: الظنّ السيئ:
أولا: مفهوم سوء الظن:
يطلق الظن على كلّ ما دون اليقين, وهو اتهام الناس بجريمة ما, أو بارتكاب منكر من المنكرات بغير دليل راجح, وإدانتهم بالأوهام والشكوك.
ثانيا: مضاره الاجتماعية:
لسوء الظن أضرار جسيمة على المجتمع, ولذلك نهى الإسلام عنه في كتاب الله وسنة رسولهصلى الله عليه وسلم, قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ) وقال صلى الله عليه وسلم: (إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث)،ومن مضاره ما يلي:
أ . أنه يفضي إلى إصدار أحكام ظالمة على الغير.
ب.يفسد العلاقات الاجتماعية في الأمة.
ج . يزيل الألفة والمحبة والأخوة الإسلامية بين المسلمين.
بغض الناس وكراهيتهم لصاحب هذا الخلق الشنيع.
المعوق السادس : الغيبة:
أولا: مفهوم الغيبة:
الغيبة من الاغتياب, واغتاب الرجل صاحبه اغتيابا إذا وقع فيه، وهو أن يتكلم خلف إنسان مستور بسوء أو بما يغُمه لو سمعه وإن كان فيه. فإن كان صدقا, فهو غيبة, وإن كان كذبا فهو بُهتٌ.
وتطلق الغيبة على ذكر المرء أخاه بما يكره, كما جاء في الحديث النبوي: (أتدرون ما الغيبة؟ قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: ذكرك أخاك بما يكره, قيل: أفرأيت إن كان في أخي ما أقول؟ قال: إن كان في أخيك ما تقول فقد اغتبته, وإن لم يكن فيه فقد بهته).
ثانيا: مضار الغيبة على المجتمع:
للغيبة آثار سيئة على الفرد والمجتمع, ومن تلك الآثار ما يلي:
أ . أنها جالبة للسيئات على صاحبها, فعن عائشة رضي الله عنها قالت: قلت للنبي صلى الله عليه وسلم: حسبك من صفية كذا وكذا -تعني قصيرة- فقال: (لقد قلتِ كلمة لو مزجت بماء البحر لمزجته. قالت: وحكيت له إنسانا فقال صلى الله عليه وسلم: ما أحب أني حكيت إنسانا ولو أن لي كذا وكذا). وقال الحسن البصري: والله للغيبة أسرع في دين الرجل من الأكلة على الجسد.
ب . أنه سبب لقسوة القلب ونتن اللسان, لذالك خافها العلماء على أنفسهم, قال البخاري رحمه الله: “ما اغتبت أحداً منذ أن علمت أن الغيبة حرام”.
ج . أنه سبب إفضاح الله لصاحبه, ونقصان إيمانه, فعن البراء بن عازب رضي الله عنه قال: خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أسمع العواتق في بيوتها, أو قال في خدورها, ثم قال: (يا معشر من آمن بلسانه ولم يدخل الإيمان في قلبه, لا تغتابوا المسلمين, ولا تتبعوا عوراتهم, فإنه من اتبع عورة أخيه المسلم اتبع الله عورته ومن يتبع الله عورته يفضحه ولو في جوف بيته).
أنه سبب لتعذيب الله صاحبه وإدخاله النار, قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لما عرج بي مررت بقوم لهم أظفار من نحاس يخمشون وجوههم وصدورهم، فقلت: من هؤلاء يا جبريل؟ قال هؤلاء الذين يأكلون لحوم الناس ويقعون في أعراضهم).
المعوق السابع : الشح والبخل:
أولا: مفهوم الشح:
الشح والبخل بمعنى واحد, وقيل الشح هو البخل مع الحرص, والشحّ أشد البخل, وهو أبلغ في المنع من البخل.
ولقد فرّق العلماء بين الشحّ والبخل وإن كان معناهما متقاربين. قال ابن عثيمين: والبخل هو منع ما يجب وما ينبغي بذله؛ والشحّ هو الطمع فيما ليس عنده, وهو أشد من البخل, لأن الشحيح يطمع فيما عند الناس ويمنع ما عنده, والبخيل يمنع ما عنده مما أوجب الله عليه من زكاة, ونفقات, ومما ينبغي بذله فيما تقتضيه المروءة.
ثانيا: مضار الشح والبخل:
للبخل آثار سيّئة, وهو معوق من معوقات التآلف والتضامن بين أفراد المجتمع, وقد استعاذ منه الرسولصلى الله عليه وسلم. ومن مضاره ما يلي:
أ . أن صاحبه معرض للعسر في حياته, قال الله تعالى: (وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ واسْتَغْنَى، وَكَذَّبَ بالحُسْنَى، فَسَنُيَسِّرُهُ للْعُسْرَى).
ب .أنه سبب لهلاك أمة فضلا عن الفرد الذي قام به, فقد قالصلى الله عليه وسلم: (اتقوا الشح فإنه أهلك من كان قبلكم)
ج . أنه سبب استدراج الله لصاحبه بالعذاب, (وَ لا يَحْسَبَنَّ الّذينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْراً لَهُم بَلْ هو شَرٌّ لّهُم سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ القِيَامَةِ)ففي هذه الآية تخويف شديد من عقاب الذين يبخلون, ولا يؤدون ما فرض الله في أموالهم. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من آتاه الله مالا فلم يؤد زكاته مثل له يوم القيامة شجاعا أقرع له زبيبتان يطوقه يوم القيامة ثم يأخذ بلهزمتيه يعني شدقيه ثم يقول أنا مالك أنا كنـزك ثم تلا هذه الآية:(وَ لا يَحْسَبَنَّ الّذينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْراً لَهُم بَلْ هو شَرٌّ لّهُم سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ القِيَامَةِ), فبهذه التوجيهات الإسلامية الكريمة المبيّنة لحقيقة وخطورة معوقات التآلف لاجتماعي, يؤكد الإسلام أن منهجه التربوي قائم على إزالة ما يغرس الشحناء والبغضاء بين المجتمع المسلم, بالتوجيه والنهي والترهيب من فعل الأسباب.
وفي الموضوع القادم سنتناول ما يؤلِّفُ بين الأقارب