إن الحديث عن القلب وإصلاحه، حديث بالغ الأهمية؛ لعظم مكانة القلب ومنزلته، وأثره في حياة الإنسان، ونحن نرى في هذا العصر تطوراً هائلاً في جراحة القلب البشري، و الدقة المتناهية في تحديد الأمراض الحسية التي تنتاب القلب، وبيان طرق تشخيصها ومعالجتها، وأما صلاح القلب، واستقامته فقليل من ينظر إليه، ويعطيه الاهتمام اللائق به، مع أهمية ذلك، وكما أننا نشهد من يتخصص في طب القلب وصحته، فنحن بحاجة إلى من يتقن الحديث عن مقامات القلب، وأحواله، وأعماله، وعلله وأدوائه، وطرق إصلاحه، فحياة القلب، وإضاءته مادة كل خير، وموته، وظلمته مادة كل شر، ولذلك يجب الاعتناء، والاهتمام بحياة القلب، وإصلاحه؛ وذلك لعدة أمور:
1. القلب محل الإيمان والتقوى:
فالقلب محل الإيمان، واليقين، والتعظيم لرب العالمين، والخوف منه، والتوكل عليه، ومحبته والأنس به، والانقياد والتسليم له سبحانه، قال تعالى (أولئك كتب في قلوبهم الإيمان) ، “كتب الله في قلوبهم الإيمان أي: رسمه، وثبته، وغرسه غرسا، لا يتزلزل، ولا تؤثر فيه الشبه والشكوك، فإيمان القلب هو الأصل، والأساس لإيمان الجوارح، فالقلبُ هو الباعث والمُحرِّكُ الذي مِنه ينطلق التوجيه إلى الجوارح بالعمل، وعن أنس رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول « الإسلام علانية والإيمان في القلب »، “فقد جعل النبي صلى الله عليه وسلم الإسلام اسماً لما ظهر من الأعمال، وجعل الإيمان اسماً لما بطن من الاعتقاد، وليس ذلك لأن الأعمال ليست من الإيمان، أو التصديق بالقلب ليس من الإسلام، بل ذلك تفصيل لجملة هي كلها شيء واحد وجماعها الدين”
وللتلازم بين الظاهر والباطن، لا يتصور وجود إيمان القلب مع عدم أعمال الجوارح، بل متى نقصت الأعمال الظاهرة كان لنقص الإيمان في القلب، (فأصل الإيمان في القلب، وهو قول القلب وعمله، وهو إقرار بالتصديق والحب والانقياد، وما كان في القلب، فلا بد أن يظهر موجبه ومقتضاه على الجوارح، وإذا لم يعمل بموجبه ومقتضاه دل على عدمه أو ضعفه، ولهذا كانت الأعمال الظاهرة من موجب إيمان القلب ومقتضاه).
ومحل التقوى هو القلب كما قال تعالى (ذلك ومَن يُعَظّم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب) ، فأضيفت التقوى إلى القلوب؛ لأن القلب هو محلها، وبيَّنَ ذلِكَ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم ، حينَ قالَ « التَّقْوَى هَا هُنَا » وَيُشِيرُ إِلَى صَدْرِهِ ثَلاَثَ مَرَّات، وعَنْ أَبِي ذَرٍّ رضي الله عنه، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِيمَا يرويه عَنِ اللّٰهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى أَنَّهُ قَالَ: «..يَا عِبَادِي لَوْ أَنَّ أَوَّلَكم وَآخرَكُم، وَإِنسَكُم وَجِنَّكُم كَانُوا عَلَى أَتقَى قَلبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ مِنكُم، مَا زَادَ ذَلِكَ فِـي مُلكِي شَيئًا، ».
فدل على أن التقوى في القلب، التي متى ما تحققت فيه حصل له الخيرية والأفضلية.
وبالقلب يعرف العبد ربه، فيتعرف على أسمائه وصفاته، وبالقلب يعلم العبد أمر الله ونهيه “فالقلب هو العالم بالله، وهو المتقرب إلى الله، وهو العامل لله، وهو الساعي إلى الله، وهو العالم بما عند الله، وإنما الجوارح أتباع له…، فالقلب هو المقبول عند الله، إذا سلم من غير الله، وهو المحجوب عن الله، إذا صار مستغرقاً بغير الله، وهو الذي يسعد بالقرب من الله، فيفلح إذا زكاه، وهو الذي يخيب ويشقى إذا دنسه ودساه، وهو المطيع في الحقيقة لله تعالى، وإنما الذي ينتشر على الجوارح من العبادات والأخلاق أنواره وآثاره، وبحسب ما فيه من النور والظلام، تظهر محاسن الظاهر ومساوية، إذ كل إناء بما فيه ينضح، والقلوب كالقدور تغلي بما فيها”.