إن الغاية من خلق الله سبحانه وتعالى العبادَ أن يعبدوه ويوحدوه؛ قال تعالى:{ وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ}[سورة الذاريات: 56]، وأرسل إلى الناس الرسل، وأنزل عليهم الكتب؛ ليبيّنوا كيفية العبوديه له سبحانه وتعالى ؛ قال سبحانه : {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} [سورة الأنبياء: 25].
وإن الله سبحانه وتعالى يحب إذا عمل العبد عملاً أن يداوم عليه؛ ومن هنا كان هدي النبي صلى الله عليه وسلم في عباداته أنه إذا عمل عملاً أثبته[رواه البخاري برقم746]،
ولهذا عاب الرسول صلى الله عليه وسلم على من انقطع عن العبادة بعد القيام بها، كما في قوله صلى الله عليه وسلم لعبد الله بن عمرو رضي الله عنهما: (( يا عبدالله، لا تكن مثل فلَان، كَانَ يقوم اللَّيْل فَترك قيام اللَّيْل)) [رواه البخاري1152].
وقبل الخوض في المقالة فإنه من المناسب الحديثُ عن مفهوم المداومة من حيث اللغة والاصطلاح ليتضح معالمها، وليكون مدخلاً مناسباً للموضوعات اللاحقة .
المداومة في اللغة:
المداومة : مفاعلة، وهي مصدر داوم يداوم مداومة، وهي مأخوذة من الثلاثي دَوَم، يَدُوم.
والمداومة تأتي في اللغة في عدة معان، منها [معجم مقاييس اللغة، لابن فارس 2/315، ولسان العرب، لابن منظور 12/123-214] :
1- السكون واللزوم.
2- المواظبة، يقال: واظب على الشيء داوم عليهِ.
3- التأني في الشيء، يقال (اسْتَدَامَ) الرَّجُلُ الْأَمْرَ إِذَا تَأَنَّى بِهِ وَانْتَظَرَ.
4- الامتلاء، يقال: دامت الدلو إذا امتلأت.
5- الدوران، يقال دوّم العمامة دوّرها حول رأسه.
هذه بعض المعاني التي وردت في المداومة، وعند التأمل يتبين أن المعنى الأول والثاني هما الأقرب لموضوع البحث، فالمداوِم على العبادة مواظب لها، وملازم على أدائها.
ثانياً : العبادة في اللغة والاصطلاح.
أ- العبادة في اللغة : تطلق العبادة في اللغة على المعاني الآتية :
1- الطاعة . 2- غاية التذلل. 3- الانقياد والخضوع [الصحاح، للجوهري 2/503].
وهذا يعني أن من معاني العبادة: التذلل، والطاعة، والانقياد، والخضوع، وهذه المعاني لها صلة بالجوانب المتعلقة بعبادة المسلم لربه، فالتذلل والخضوع والطاعة والانقياد من الأعمال التعبدية، وهي لا تصرف بالشكل المطلق إلا لله عز وجل.
أما العبادة في الاصطلاح فمن أجمل التعريفات تعريف شيخ الإسلام ابن تيمية «اسم جامع لكلّ ما يحبّه الله ويرضاه من الأقوال والأفعال الظّاهرة والباطنة »[مجموع الفتاوى لابن تيمية 10/149] .
والمتأمل في تعريف شيخ الإسلام ابن تيمية يتّضح له شمولية العبادة وسعة جوانبها؛ إذ العبادة تتناول الواجبات كالصّلاة والصّيام والزّكاة والحجّ وغيرها… كما أنه يشمل ما زاد على الفرائض من أنواع النّوافل؛ كتلاوة القرآن والدّعاء والاستغفار والصّدقات وغيرها… وأيضا يشمل المعاملات والسّلوك كبِرّ الوالدين وصلة الأرحام بل يتناول أمور الدنيا إذا تأسست على نية حسنة.
وبهذا يتبيّن خطأ من يحصر العبادات على الشعائر التعبدية المعروفة من صلاة وزكاة…ويظنّ أنّها مجرّد إقامة الشّعائر المعروفة دون غيرها؛ فالعبادة تتناول ألوان النّشاط الإنساني بضروبه المختلفة.والمداومة على العبادة تعني : المواظبة عليها، وعدم الانقطاع عنها، بغض النظر عن قلتها وكثرتها؛ أخذاً من حديث عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل أي العمل أحب إلى الله؟ قال: ((أدومه وإن قل)) [رواه البخاري برقم 1132] .
وعلى ضوء تعريف المداومة والعبادة فإنه يمكن القول إن المداومة على العبادة تعني: المواظبة على العبادة، وعدم الانقطاع عنها، بغض النظر عن قلتها وكثرتها؛ أخذاً من حديث عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل أي العمل أحب إلى الله؟ قال: ((أدومه وإن قل)) [رواه البخاري برقم 1132] .
وللمداومة ثمرات عديدة على المتعبد لله عز وجل ومنها:
1- تحقيق محبة الله عز وجلّ :جاء في الحديث الشريف عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ((…إن أحَبَّ الأّعْمَالِ إلَى اللهِ مَا دُوْوِمَ عَلَيْهِ وَإنْ قَلّ)) [صحيح مسلم برقم 782]. يقول ابن الجوزي موضحاً فيه العلة التي بها أحب الله عزّ وجلّ المداوِم على الطاعة فيقول : «إِنَّمَا أحب الدَّائِم لمعنيين:
أَحدهما أَن المقبل على الله عز وَجل بِالعَمَلِ إِذا تَركه من غير عذر كَانَ كالمعرض بعد الْوَصْل، فَهُوَ معرض للذم، … ولهذا قال عَلَيْهِ السَّلَام لعبد الله بن عَمْرو: (( لَا تكونن مثل فلَان، كَانَ يقوم اللَّيْل فَترك قيام اللَّيْل)).[صحيح البخاري برقم 1152]
والثَّاني: أَن مداوم الخير ملازم للخدمة، فكأَنَّهُ يتَرَدَّد إِلَى بَاب الطَّاعَة كل وَقت، فَلَا ينسى من البر لتردده، وليس كمَنْ لَازم البَاب يَوْمًا دَائما ثمَّ انْقَطع شهرًا كَامِلا ».[كشف المشكل من حديث الصحيحين، لابن الجوزي4/287]
2-حصول الأجر الكثير:
من المعلوم أن الشيءَ القليل يكثر ويكبر بالانتظام والاستمرار، وهكذا المسلم في عبادته لربه يعظم ثوابه إن لازم واستمر عليها، قال صلى الله عليه وسلم : ((أَحَبُّ الأَعْمَالَ إلى اللهِ تَعَالىَ أَدْوَمُهَا وَإِنْ قَلَّ)) .[رواه البخاري برقم 6464، ومسلم برقم 783]
3- اتباع هدي النبي صلى الله عليه وسلم في العبودية:
كان من هدي النبي صلى الله عليه وسلم إذا عمل عملاً أثبته؛ جاء في الحديث الشريف عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: (( كان صلى الله عليه وسلم إذا عمل عملاً أثبته))، [صحيح مسلم برقم 746]وفي حديث آخر : (( وكان إذا صلى صلاة أثبتها))[صحيح مسلم برقم 835] .
ومما يجلي هذا الهدي النبوي أن الرسول صلى الله عليه وسلم يحرص على المداومة على العبادة حتى مع عجزه عن القيام، فكان إذا غلبه نوم عن قيام الليل صلى من النهار ثنتي عشرة ركعة[صحيح مسلم برقم 746]، ولما شغله صلى الله عليه وسلم ناس من عبد القيس عن الركعتين بعد الظهر صلاهما بعد العصر [صحيح البخاري 1233] .
4-تحقيق صدق العبودية عزّ وجلّ بما يعين على الاستقامة على الدين:
يحقق الدوام على العبادة صدق العبد في عبوديته لخالقه عز وجل؛ لأن عظم العمل ليس منصب في كثرته فحسب بل يكون في المداومة عليها؛ لأن الاستمرار على القليل خير من كثير منقطع؛ لأنه يدل على محبته للعمل ولربه سبحانه وتعالى ؛ قال تعالى: (واعبد ربك حتى يأتيك اليقين) (الحجر: 99) أي « دم على العبادة ما دمت حيًّا » [محاسن التأويل، للقاسمي 4/500]
5-تحقيق التوازن والشمولية في العبودية:
إن المداوم على العبادة على وجه الاقتصاد فيها يؤدي العبادة على وجه التوازن والشمولية، بحيث لا يطغى جانب على آخر؛ فهو يجمع بين العبادات الواجبات والمندوبات والأمور المباحة التي تعينه على الإقبال على الطاعة والاستمرار عليها؛ قال تعالى: {وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا} [القصص : 77 ] .