فمن عوامل البناء التعليمي والتربوي ما يلي:
ـ أنه كان عليه الصلاة والسلام يعظ الصحابة بالمواعظ التي تزكوا بها النفوس، وتزداد بها المعارف والعلوم، وتتقرب بها إلى الله القلوب، وكان من منهجه التربوي أنه لا يكثر عليهم مخافة الملل، وهو الذي لا يُمَلُّ حديثه r ، ولكنها المنهجية التربوية التي يعلمنا من خلالها r كيفية الوعظ، والقسط فيه، فطبقها الصحابة رضي الله تعالى عنهم، فعن أبي وائل قال: (كان عبدالله يُذَكِّر الناس في كل خميس، فقال له رجل: يا أبا عبدالرحمن لودِدْتُ أنك ذكرتنا كلَ يوم. قال: أما إنه يمنعني من ذلك أني أكره أنْ أُمِلَّكُم، وإني أتخولكم بالموعظة كما كان النبي r يتخولنا بها مخافة السآمة علينا.)
ولقد امتد التعليم النبوي للنساء مباشرة؛ عندما طلبن ذلك منه r فعن أبي سعيد الخدري t قال: (قالت نساء للنبي r غَلَبَنَا الرجال، فاجعل لنا يوماً من نفسك. فوَعَدَهُنَّ يوماً لَقِيهُنَّ فيه، فوعظهن وأمرهن ) ويعلمنا هذا الحديث احترام المطالب النبيلة، وتلبيتها، وأن للنساء الحق في تعلم العلوم الشرعية، وأن للعلماء أن يخصصوا بعض المواعظ للنساء؛ بما ينفعهن ويرفع من قدرهن ويُشجعهن على الخير. فإن في هذا التخصيص ما يرفع من قدرها، ويشجعها على حب الخير؛ واستشعار قَدْرِهَا ومكانَتِها في الإسلام، ويعزز من معنويتها، ويصحح سلوكها ومفاهيمها، ويبين لها مسؤولياتها الملقاة على عاتقها.
ـ وكل قول منه r أو فعل أو تقرير هو تعليم وتربية أياً كان مكان ذلك، وقد كان r يستغل الفرص والمواقف لتعليم من معه، فمن ذلك كان معاذ رديفه على الرحل، فقال r ( يا معاذ بن جبل، قال : لبيك يا رسول الله وسعديك. قال : يا معاذ. قال: لبيك يا رسول الله وسعديك (ثلاثاً) قال: ما من أحد يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله صدقاً من قلبه إلا حرمه الله على النار. قال: يا رسول الله أفلا أخبر به الناس فيستبشروا ؟ قال: إذاً يتَّكلوا. وأخبر به معاذ عند موته تأثما) وفي هذا الحديث جواز الإرداف على الدابة، وبيان تواضع النبي r ومنـزلة معاذ بن جبل من العلم لأنه خصه بما ذكر، وفيه جواز استفسار الطالب عما يتردد فيه، واستئذانه في إشاعة ما يعلم به وحده. وأما دخول الجنة بقول (لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله صدقا من قلبه)؛ فقوله صدقاً، أقيم هنا مقام الاستقامة؛ لأن الصدق يُعبر به قولاً عن مطابقة القول المخبر عنه، ويُعبر به فعلاً عن تحري الأخلاق المرضية، كقوله تعالى (والذي جاء بالصدق وصدَّق به) أي حقق ما أورده قولاً بما تحراه فعلاً. وأراد بهذا التقرير رفع الإشكال عن ظاهر الخبر، لأنه يقتضي عدم دخول جميع من شهد الشهادتين النار، لما فيه من التعميم والتأكيد، لكن دلت الأدلة القطعية عند أهل السنة على أن طائفة من عصاة المؤمنين يُعذَّبون ثم يخرجون من النار بالشفاعة، فَعُلِم أن ذلك مقيد بمن عمل الأعمال الصالحة. والعلم عند الله تعالى وهو كريم جواد؛ يفعل ما يُريد؛ ولا معقب لحكمه سبحانه وتعالى.وفي الحديث أسلوب المناداة لشد الانتباه نحو أمر مهم وعظيم من خلال تكرار مناداة الرسول r لمعاذ ثلاث مرَّات، وفيه كذلك فطنة معاذ؛ إذ سأل النبي عن الإخبار بمضمون هذا الحديث. ثم تخوف من الإثم فاجتهد وبَلَّغه للناس عند موته؛ مخافة من كتمان العلم. وفيه أدب معاذ مع رسول الله r فيقول : لبيك يا رسول الله وسعديك. مما يفيد أهمية أدب طالب العلم مع شيخه؛ لأن العلماء ورثة الأنبياء. ويكرر عليه r وهو يقول: لبيك يا رسول الله وسعديك، ولم يقل إني أسمعك، وإنه لأدب جَمٌّ، يعلمنا به معاذ t ليتأدب به المسلم مع والديه وأهل العلم والفضل