وكان صلى الله عليه وسلم يعلم الوفود التي تفد إليه شرائع الإسلام لِيُعَلِّمُوا غيرَهم، وقد قال صلى الله عليه وسلم لوفد عبد القيس (ارجعوا إلى أهليكم فَعَلِّمُوهم) وعن مالك بن الحويرث رضي الله عنه قال (أتيت النبي صلى الله عليه وسلم في نفر من قومي، فأقمنا عنده عشرين ليلة، وكان رحيماً رفيقاً، فلما رأى شوقنا إلى أهلينا قال: ارجعوا فكونوا فيهم؛ وعلموهم وصلُّوا، فإذا حضرت الصلاة فليؤذن لكم أحدُكم، وليؤمكم أكبركم ) وفي هذا الحديث التعليم بالقدوة، حيث أدرك أولئك الوفد ما يتمتع به رسول الله صلى الله عليه وسلم من الخُلُق العظيم، فوصفوه بالرفق والرحمة، مما يدل على الأثر العلمي من خلال القدوة التي تدركها الأبصار والبصائر، وأن العالم والمعلم والوالدين والمدير والرئيس عندما يتحلى بالخلق الكريم فإن غيره يُدركه ويتأثر به. ومن خُلُقه صلى الله عليه وسلم عدم تكليفه غيره بما لا يطيق، فقد أدرك صلى الله عليه وسلم ما تجيش به قلوبهم من الشوق لأهليهم، فابتدرهم قبل أن يطلبوا منه الإذن بالسفر، فقال (ارجعوا فكونوا فيهم) فهكذا يقرر بالفعل صلى الله عليه وسلم مبدأ المبادرة التعليمي والتربوي والخلقي، والتحسس لأحوال من يكونون معه، ومراعاة أحوالهم، وكيف يكون المسلم مع من يستحي منه أو يقدره؛ بأن يراعي مشاعرهم، ولا يُحْوِج المحتاج إلى التلفظ بحاجته. فإن ذلك من الخُلُق العظيم.
ثم يبين صلى الله عليه وسلم دورهم التعليمي في أهليهم بأن يقوموا بتعليمهم ما تعلموا وحصلوا عليه من العلم أبان إقامتهم عند رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد بدأ بالعلم، لأنه مفتاح الخير، بل ومفتاح الصلاة، التي لا تتم الصلاة إلا بمعرفتها، والعلم بها أولاً، ثم أمرهم بالصلاة، ثم بين لهم كيف يكونون في الصلاة (فليؤذن لكم أحدُكم، وليؤمكم أكبركم) والإمامة هنا للأكبر؛ لأن الذين قَدِموا عليه في العلم سواء، وكلهم شَبَبَةٌ. وبهذه الوفود التي تأتي وتتعلم ثم تعود فَتُعَلِّم أقوامهم انتشر التعليم في ديار المسلمين.
ـ وفي منهجه التعليمي التربوي للجانب المهني تشجيعه صلى الله عليه وسلم على ممارسة العمل المهني، ومن ذلك (أن رسول الله r مر بعبدالله بن جعفر وهو يبيع بيع الغلمان، أو الصبيان، قال: اللهم بارك له في بيعه، أو قال: في صفقته) وفي هذا الدعاء منه صلى الله عليه وسلم ما يزيد بركة ذلك البيع والربح الذي يقوم به ذلك الغلام، إضافة إلى التشجيع منه صلى الله عليه وسلم لهذا الغلام في مباشرته للعمل النافع، مما يؤكد أهمية ممارسة التشجيع للصبيان عندما يؤدون أعمالاً نافعة مثمرة، يتمرسون من خلالها القيام بما يحقق لهم النفع عندما يكبرون. وإن في كلمات التشجيع التي تخرج من الكبير للصغير ما يحفزه ويستثير في نفسه مشاعر الحب للكبار؛ والرغبة في التعامل معهم، مع المزيد من المحبة لذلك العمل والصنيع الذي يمارسه. وإن هذا التشجيع والدعاء منه صلى الله عليه وسلم يبرز أهمية الجوانب التشجيعية، كما أن في ممارسة ذلك الصبي ما يعطي صورة لممارسات بعض الصبية في المدينة خلال تلك الفترة النبوية. وفي موقف آخر يتبين منهجه التعليمي التربوي صلى الله عليه وسلم في الإرشاد المهني، حيث أرشد أحد الصحابة لكيفية استثمار ما عنده من متاع بسيط بأن يبيع حاجة منه ثم يدبر أمره المهني بما يحقق له ممارسة التكسب، فعن أنس بن مالك أن رجلاً من الأنصار أتى النبي صلى الله عليه وسلم يسأله فقال (أما في بيتك شيء ؟ قال : بلى.حِلْسٌ: نلبس بعضه ونبسط بعضه، وقَعْبٌ نشرب فيه من الماء، قال: أتني بهما، قال: فأتاه بهما، فأخذهما رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده، وقال: من يشتري هذين ؟ قال رجل: أنا آخذهما بدرهم، قال: من يزيد على درهم ؟ مرتين أو ثلاثاً، قال رجل: أنا آخذهما بدرهمين، فأعطاهما إياه، وأخذ الدرهمين، وأعطاهما الأنصاري، وقال: اشتر بأحدهما طعاماً، فانبذه إلى أهلك، واشتر بالآخر قدوماً فأتني به، فأتاه به، فشدَّ فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم عوداً بيده، ثم قال له: اذهب فاحتطب وبع، ولا أرينك خمسة عشر يوماً، فذهب الرجل يحتطب ويبيع، فجاء، وقد أصاب عشرة دراهم، فاشترى ببعضها ثوباً، وببعضها طعاماً، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا خير لك أن تجيء المسألة نكتة في وجهك يوم القيامة) وفي الحديث سؤال المعلم للمتعلم أو المحتاج عن بعض خصوصياته لينفعه بها، وفي الحديث الإشارة إلى مهنة المزايدة، التي يقوم بها بعض الناس، وينبغي أن يكون القائم بها أميناً حتى يصل بالسلعة إلى ما ينبغي أن تكون عليه من الثمن، وفي الحديث أهمية توجيه المستفيد إلى دقائق ما لا يُحسنه ولا يفهم فيه، وفي الحديث تواضعه r فقد شَدَّ بنفسه في القدوم عوداً بيده، ثم فيه أهمية بيان العلة عند النهي والأمر ما كان ذلك ممكناً، حيث بَيَّنَ صلى الله عليه وسلم للرجل علة العمل وترك المسألة في تمام الحديث.
ففي هذا الحديث توجيه تعليمي لكيفية ممارسة العمل والتكسب، مع حُسن التصرف فيما يملك الإنسان؛ ليجعل منه نواة تجارة يتعيش من خلالها، الأمر الذي يدعوا إلى أهمية ممارسة الإرشاد المهني للشباب، حيث أن كثيراً من العوائق تكمن في عدم معرفتهم لكيفية التكسب؛ وذلك نتيجة قلة خبرتهم. فيقدم هذا الإرشاد النبوي أنموذجاً في ممارسة عملية الإرشاد والتوجيه المهني، الذي هو أحد أوجه التعليم، وهدف من أهدافه.