الوقفة الأولى مع قوله تعالى: (يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ كُتِبَ عَلَيۡكُمُ ٱلصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى ٱلَّذِينَ مِن قَبۡلِكُمۡ لَعَلَّكُمۡ تَتَّقُونَ) [البقرة: 183]
اشتملت هذه الآية على فوائد عظيمة منها:
1- استهلت الآية بنداء الإيمان لعباد الرحمن المتضمّن لخيري الدنيا والآخرة، والنداء من أساليب التنبيه، الذي يتطلب تركيزا واهتماما بما يقال، واستعدادا للامتثال. فقد ورد عن ابن مسعود رضي الله عنه مرسلا أنه قال لرجل: إِذا سمعت اللَّهَ يَقول: “يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا” فَأَرْعِها سمعَك فَإِنَّه خَيْرٌ يَأْمره أَوْ شَرٌّ يَنْهَى عنه. والأوامر والنواهي في نداءات القرآن الكريم كما قال ابن كثير رحمه الله: ” اشتملت على الأَمر بكُلّ معروف حَسَنٍ نَافِعٍ طَيِّبٍ مَحْبُوبٍ، وَالنَّهْيِ عَنْ كلّ قبيحٍ رذِيلٍ دَنِيءٍ”.
2- إنّ نداء المؤمنين بِوصْف الإيمان دلّ على أن ما يؤمرون به هو خير لإيمانهم من حيث تقويته بفعل الطاعات ومنها الصوم، والمحافظة عليه مما ينقصه أو يضر به من المعاصي والمنكرات. ولهذا ربط النبي صلى الله عليه وسلم الصوم بالإيمان فقال: «من صام رمضان إيمانا واحتسابا، غفر له ما تقدم من ذنبه».
3- الأمر الذي جاءت به الآية هو الصيام وعُلم ذلك من صيغة “كُتِب” التي هي من صِيَغ الأمر قال ابن بطال رحمه الله: “قوله تعالى: (كُتِب عليكم الصِّيام) [البقرة: 183]، أي فُرِض عليكم كما فُرِض على الذين من قبلكم، والكتاب في اللغة بمعنى: الوجوب والفرض، “. قال ابن رجب رحمه الله: «ولم يذكر في القرآن لفظ الكتاب وما تصرف منه إلا فيما هو لازم: إما شرعا، مثل قوله: (كتب عليكم الصيام) [البقرة: 183]، (كتب عليكم القتال) [البقرة: 216] وقوله: (كتاب الله عليكم) [النساء: 24]. وإما قدَرا، نحو قوله: (كتب الله لأغلبن أنا ورسلي) [المجادلة: 21]، وقوله: (ولولا أن كتب الله عليهم الجلاء) [الحشر: 3]”. وفي آية الصيام أراد به اللازم شرعا.
4- والصيام في الشرع: ” اسم لترك جميع الأكل وجميع الشرب وقربان النساء مدة مقدرة بالشرع بنية الامتثال لأمر الله»، “وتمامه وكماله باجتناب المحظورات وعدم الوقوع في المحرمات، لقوله عليه الصلاة والسلام: «مَنْ لَمْ يَدَعْ قَوْلَ الزُّورِ وَالعَمَلَ بِهِ، فَلَيْسَ لِلَّهِ حَاجَةٌ فِي أَنْ يَدَعَ طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ»
5- قوله: (كَمَا كُتبَ عَلَى الَّذينَ مِن قَبلكُم) يعني: الأنبياء والأمم من لدن آدم عليه السلام.
6- تشبيه صيامنا بصيامهم هل المراد منه: أصل الصيام، لا عَيْنه ووقته أم مثل صيامنا في المدة والكيفية؟ فيه خلاف بين أهل العلم.
7- والغرض من تشبيه صيامنا بمن قبلنا ثلاثة أمور:
أ-فيه توكيد للحكم: “من أجل الاهتمام بهذه العبادة، والتنويه بها، لأنها شرعها الله قبل الإسلام لمن كانوا قبل المسلمين، وشرَعها للمسلمين، وذلك يقتضي اطّراد صلاحها ووفرة ثوابها”.
ب-وترغيب للفعل: من أجل إنهاض هممِ المسلمين لتلقّي هذه العبادة كي لا يتميز بها من كان قبلهم، حيث ألحقهم الله بصالح الأمم في الشرائع العائدة بخير الدنيا والآخرة. قال الله تعالى: “وفي ذلك فليتنافس المتنافسون” [المطففين: 26] …” ولأجل إثارة العزائم للقيام بهذه الفريضة حتى لا يكونوا مقصرين في قبول هذا الفرض بل ليأخذوه بقوة تفوق ما أدى به الأمم السابقة”
ت-وتطييب للنفس: فالمؤمن إذا سمع “كما كتب على الذين من قبلكم” طابت نفسه وسهل امتثاله ولم يستوحش ما أُمِر به، لوجود من صامه قبله. “فإن الشاق إذا عمّ سهل عمله!”. وفي ذلك تأنيس لهم لتخلِّيهم عن أكبر لذائذهم و”تذكيرا لهم بأن ربهم لا يريد إلا صلاحهم دون نكايتهم”
8- قد أبان الله عز وجل بقوله: {لعلكم تتقون} أن الصوم من أسباب التقوى الذي هو خير زاد للمؤمن، يتزوده من دنياه لآخرته. قال الله عز وجل:﴿ وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيۡرَ ٱلزَّادِ ٱلتَّقۡوَىٰۖ ﴾[البقرة: 197]. ” وحقيقة التقوى: فعل المأمور والمندوب إليه. واجتناب المنهي عنه والمكروه المنزه عنه” والصائم يحقق التقوى؛ فيمتثل أمر الله ويتقرب إليه؛ بترك الطعام والشراب والجماع من طلوع الفجر إلى غروب الشمس، مع ملء يومه بقراءة القرآن والأذكار وغيرهما، واجتناب ما نهى الله عنه من الرفث والفسوق والسِّباب مما يكون وقاية له من النار، فيحصل من ذلك تزكية للبدن وتضييق لمسالك الشيطان. ولهذا جاء في الحديث أن: «الصِّيَام جُنَّةٌ». أي مانع من المعاصي، مانع من النار.
9- وفي قوله “لعلكم تتقون” مقاصد عديدة كثيرة ذكرها الحليمي رحمه الله فمنها:
أ-أنّ التقوى تجلب إلى الصائم من الجوع والعطش ما يخمد به شهواته … ولا يأتي في قضائها ما لا يرضى الله تعالى له.
ب-أن الصائم يتقي الله من الكفران والتغافل عن شكر نعم الله وتجاهل قدرها. وذلك أن الناس إذا كانوا ممكَّنين طول الدهر ليلا ونهارا من الأكل والشرب، نسوا الجوع والعطش، وغفلوا عن شدتهما، وبحسب ذلك يجهلون موقع نعمة الله عليهم بالطعام والشراب، ويغفلون عن شكرها. ففرض الصوم عليهم مدة من المدد ليستشعروا أن التمكّن من الأكل والشرب لا يقع لمجرد وجود الطعام، لكن يحتاج مع الوجود إلى إطلاق المولى وإباحته…. ثم يكفوا عنهما لوجهه تعالى فيكون ذلك عبادة لهم، ثم يجدوا خلال الكف توقانا إليهما ويصبروا، فيكون ذلك إذكارا بفقد النعمة التي كانت عليهم طول الدهر بالإطلاق والإباحة، حتى إذا رُدّت إليهم شكروها وأدوا حقّها. ولا شك أن هذا من أبواب التقوى، وهو نظير ما قيل في الأمراض والأسقام: إنها محن يمتحن الله بها عباده ليصبروا عليها في أوقاتها فيأجرهم بها ويثيبهم، ويذكروا عندها النعمة التي كانت عليهم بالصحة والقوة من قبل، حتى إنْ عادت إليهم شكروها، ولم يغفلوا عن حقِّها.
ت-أن التّقوى تحْمِل الصائم على تركِ البُخل وإهمال المحتاجين والتغافل عنهم، وذلك أن الجوع والعطش أمران جُبِل الناس عليهما، وفيهم أغنياء مكفيون وضعفاء محتاجون، فإذا استمر للواجدين الأكل والشرب سهَوا وغفلوا ولم يدْروا ما الجوع؟ فإذا لم يذكروه لم يذكروا أهله والمبتلين به، ففرض عليهم الصوم مدة، حتى إذا أحسوا من تأخر الطعام عن وقته المعهود من الضحى أو انتصاف النهار إلى المساء باليسير من الجهد تذكروا بذلك حال من يطوي يوما بليلته أو أكثر من ذلك، لا صائما ولا طاعما لشدة ضره وفقره وفاقته. فيصير ذلك سببا لعطفهم على هذه الطبقة وإحسانهم إليهم، وشكرهم نعمة الله عندهم، وفضله لديهم. …. وهكذا الناس كلهم إذا استمر بهم التمكن من الطعام والشراب، نسوا الجياع، فامتحنوا بالصوم مدة ليجوعوا، فيذكرهم جوعهم جوع غيرهم. فيرحموهم ويواسوهم، ولا يستبدوا بالنعم التي أتوها ويشركوا غيرهم فيها، فيما أعطوها. ولا شك أن المواساة والعطف والإحسان من التقوى، وليس بين هذه الأوجه مناف. فقد يجوز أن تكون جميعها مرادا بالآية والله أعلم.